مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ} (46)

قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفيه لطائف : ( الأولى ) التعريف في عذاب جهنم قال : { هذه جهنم } والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد ، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات ( الثانية ) قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي ، والخشية خوف سببه عظمة المخشى ، قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم ، بل لعظمة جانب الله ، وكذلك قوله : { من خشية ربهم مشفقون } وقال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته ، وكذلك قوله تعالى : { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } وإنما قلنا : إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي ، وقال تعالى في الخوف : { ولا تخف سنعيدها } لما كان الخوف يضعف في موسى ، وقال : { لا تخف ولا تحزن } وقال : { فأخاف أن يقتلون } وقال إني : { خفت الموالى من ورائي } ويدل عليه تقاليب خ و ف فإن قولك خفي قريب منه ، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضا ، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي ، والعبد من الله خائف وخاش ، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف ، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش ، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف ، فلهذا قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } جعله منحصرا فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه ، وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته ، بل تزداد خشيتهم ، وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه ، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك ، فلذلك قال تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي ؟ ( الثالثة ) لما ذكر الخوف ذكر المقام ، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال : { إنما يخشى الله } وقال : { لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } وقال عليه السلام : « خشية الله رأس كل حكمة » لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه . وفي مقام ربه قولان : ( أحدهما ) مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه ، وهو مقام عبادته كما يقال : هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه ( والثاني ) مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي حافظ ومطلع أخذا من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه ، وقيل : مقام مقحم يقال : فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلانا وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي ، لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله فالخاشي لو قيل له : افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا ، ويقال : خاصة الله من خشية الله في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي الله سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله ، وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق ( الرابعة ) في قوله : { جنتان } وهذه اللطيفة نبينها بعدما نذكر ما قيل في التثنية ، قال بعضهم : المراد جنة واحدة كما قيل في قوله : { ألقيا في جهنم } وتمسك بقول القائل :

ومهمهين سرت مرتين *** قطعته بالسهم لا السهمين

فقال : أراد مهمها واحدا بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل ، لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان ، وذلك لأنه لو كان مهمها واحدا لما كانوا في قطعته يقصدون جدلا ، بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي ، وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد ، يقال : كلاهما معلوم ومجهول ، قال تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها } فوحد اللفظ ولا حاجة هاهنا إلى التعسف ، ولا مانع من أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة ، وكيف وقد قال بعد { ذواتا أفنان } وقال : فيهما . والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه ( أحدها ) أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان ( وثانيهما ) جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين ( وثالثها ) جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء ، ويحتمل أن يقال : جنتان جنة جسمية والأخرى روحية فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى : { فروح وريحان وجنة نعيم } وذلك لأن الخائف من المقربين والمقرب في روح وريحان وجنة نعيم ( وأما اللطيفة ) فنقول : لما قال تعالى في حق المجرم إنه يطوف بين نار وبين حميم آن ، وهما نوعان ذكر لغيره وهو الخائف جنتين في مقابلة ما ذكر في حق المجرم ، لكنه ذكر هناك أنهم يطوفون فيفارقون عذابا ويقعون في الآخر ، ولم يقل : هاهنا يطوفون بين الجنتين بل جعلهم الله تعالى ملوكا وهم فيها يطاف عليهم ولا يطاف بهم احتراما لهم وإكراما في حقهم ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله : { إن المتقين في جنات } أنه تعالى ذكر الجنة والجنات ، فهي لاتصال أشجارها ومساكنها وعدم وقوع الفاصل بينهما كمهامه وقفار صارت كجنة واحدة ، ولسعتها وتنوع أشجارها وكثرة مساكنها كأنها جنات ، ولاشتمالها على ما تلتذ به الروح والجسم كأنها جنتان ، فالكل عائد إلى صفة مدح .