السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ} (46)

ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب ، وجعله سابعاً إشارة إلى أبواب النار السبع ، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة ، وجعله ثامناً على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى : { ولمن خاف } أي : من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين { مقام ربه } أي : قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة ؛ قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم } [ الأعراف : 34 ]

وقوله تعالى في موضع آخر : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } [ نوح : 4 ] . وقال مجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عز وجل . { جنتان } أي : لكل خائف جنتان على حدة . قال مقاتل : جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته ؛ وقال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض ؛ وقيل : جنتان لجميع الخائفين ؛ وقيل : جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع ؛ وقيل : مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك ، وأنشد :

. . . . . . . . . . . . . . . . ونفيت عنه *** مقام الذئب ؛ كالرجل اللعين

يريد ونفيت عنه الذئب ؛ قال ابن عادل : وليس بجيد لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة ؛ وقيل : إنّ الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ، ورثها ؛ وقيل : إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعل رؤساء الدنيا ؛ وقيل : إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه ؛ وقيل : إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها ؛ وقال الفراء : إنها جنة واحدة وإنما ثنى مراعاة لرؤوس الآي ؛ وأنكر القتيبي هذا وقال : لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال : تسعة عشر مراعاة لرؤوس الآي ؛ وقيل : جنة واحدة وإنما ثنى تأكيداً كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم } [ ق : 24 ] وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن يبلغه الله تعالى إليه إلا أن يبلغه الله تعالى الجنة » أخرجه الترمذي . قوله أدلج الإدلاج مخففاً سير أول الليل ، ومثقلاً سير آخر الليل ؛ والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أوّل الأمر فإن من سار في أوّل الليل كان جديراً ببلوغ المنزل .

روى البغوي بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال : «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء » .

فائدة : قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أنّ من قال لزوجته إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق إنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله تعالى وحياء منه ؛ وقاله سفيان الثوري وأفتى به . هذا ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام .

وقال عطاء : نزلت هذه الآية في أبي بكر حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين أبرزت ؛ وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه فسأل عنه ، فأخبر عنه أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال : رحمك الله لقد أنزلت فيك آية وتلا عليه الآية .