فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ} (46)

ولما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ، ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم فقال :{ ولمن خاف } أي لكل فرد من أفراد الخائفين أو لمجموعهم والأول هو المعتمد { مقام ربه } مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب كما في قوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } وقيل : المعنى خاف قيام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله ، كما في قوله : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ، أو قيام الخائف عند ربه للحساب ، ومحصله احتمالات ثلاثة في تفسير المقام ، أولها أنه اسم مكان ، والثاني أنه مصدر تحته احتمالان ، إما بمعنى قيام الله على الخلائق ، أو بمعنى قيام الخلائق بين يديه ، قال مجاهد والنخعي : هو الرجل الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه وفيه إشارة إلى سبب استحقاق الجنتين في نفس الأمر وهو أنه ليس مجرد الخوف بل الخوف الناشئ عنه ترك المعاصي .

{ جنتان } اختلف فيهما مقاتل : يعني جنة عدن وجنة النعيم ، وقيل : إحداهما التي خلقت له ، والأخرى ورثها ، وقيل : إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه ، وقيل : إحداهما أسافل القصور . والأخرى أعاليها ، وقيل : جنة لفعل الطاعة ، وأخرى لترك المعصية ، وقيل : جنة للعقيدة التي يعتقدها وجنة للعمل الذي يعمله ، وقيل : جنة بالعمل وجنة بالتفضل ، وقيل : جنة روحانية ، وجنة جسمانية . وقيل : جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته وقال الفراء : إنما هي جنة واحدة والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي ، قال النحاس : وهذا من أعظم الغلط على كتاب الله ، فإن الله يقول جنتان ويصفهما بقوله فيهما فيهما إلخ وقيل إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة .

قال ابن عباس : وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنتين ، وعنه أيضا يقول : خاف ثم اتقى ، والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته ، وعن عطاء أنها نزلت في أبي بكر ، وعن ابن شوذب مثله وقال ابن مسعود في الآية : لمن خافه في الدنيا .

" وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ فقال الثالثة : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : نعم وإن ، رغم أنف أبي الدرداء{[1556]} " أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلي والطبراني وغيرهما .

" وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولمن خاف مقام ربه جنتان فقال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال : وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدرداء " أخرجه ابن مردويه وعن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في الآية قال : قيل لأبي الدرداء : وإن زنى وإن سرق ، قال : من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق .

" وعن ابن شهاب قال : كنت عند هشام بن عبد الملك فقال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، قال أبو هريرة : وإن زنى وإن سرق ؟ فقلت : إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا " ، أخرجه ابن مردويه .

" وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جنان الفردوس أربع جنات ، جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما . وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن {[1557]} أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وعنه في الآية قال : جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين ، قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله ، وحياء منه وهو قول سفيان الثوري وبه أفتى ، ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلما ومات على الإسلام


[1556]:رواه أحمد.
[1557]:رواه البخاري ومسلم.