وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة . ففي كل خط من النقط ما لا يحصى . ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل :
( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع . . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . .
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر ، أو كل البشر . وكلهم محدودون بين حدين من الزمان : بدء ونهاية . وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان . ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان . .
وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا ، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا . . ( إن الإنسان لظلوم كفار ) ! ! !
وقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول : هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم{[15956]} وقالكم .
وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه .
وقرأ بعضهم : " وأتاكم من كل ما سألتموه " .
وقوله : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب ، رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر{[15957]} من أن يحصيها{[15958]} العباد ، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين .
وفي صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم ، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع ، ولا مستغنى عنه ربَّنا " {[15959]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المُحبّر ، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة{[15960]} دواوين ، ديوان ، فيه العمل الصالح ، وديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه ، فيقول الله لأصغر{[15961]} نعمه - أحسبَه . قال : في ديوان النعم : خذي ثمنك من عمله الصالح ، فتستوعب عمله الصالح كله ، ثم تَنَحّى وتقول : وعزتك ما استوفيت . وتبقى الذنوب والنعم{[15962]} فإذا أراد الله أن يرحم قال : يا عبدي ، قد ضاعفتُ لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال : ووهبت لك نعمي " {[15963]} غريب ، وسنده ضعيف .
وقد روي في الأثر : أن داود ، عليه السلام ، قال : يارب ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي : حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم .
وقال الشافعي ، رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة{[15964]} تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها ، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها{[15965]} .
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ *** تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به *** إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ
{ وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب { ما سألتموه } ما كان حقيقيا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول . وقرئ { من كل } بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون " ما " نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه . { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن إفرادها ، فإنها غير متناهية . وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة . { إن الإنسان لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو بظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان . { كفّار } شديد الكفران . وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع .
معنى { وآتاكم من كل ما سألتموه } أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها ، وذلك مثل توالد الأنعام ، وإخراج الثمار والحب ، ودفع العوادي عن جميع ذلك : كدفع الأمراض عن الأنعام ، ودفع الجوائح عن الثمار والحب .
فجملة { وآتاكم من كل ما سألتموه } تعميم بعد خصوص ، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } [ سورة الشورى : 27 ] ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان . وبهذا يتبين تفسير الآية .
وجملة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم ، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم .
فمعنى { إن تعدوا } إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه . وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم ، كنعمة التنفس ، ونعمة الحواس ، ونعمة هضم الطعام والشراب ، ونعمة الدورة الدموية ، ونعمة الصحة . وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره .
والإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد ، وهو منقول من الحصى ، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط .
وجملة { إن الإنسان لظلوم كفار } تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفراً ، فلذلك فصلت عنها .
والمراد ب { الإنسان } صنف منه ، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها ، فالإنسان هو المشرك ، مثل الذي في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا } [ سورة مريم : 66 ] ، وهو استعمال كثير في القرآن .
وصيغتا المبالغة في { ظلوم كفار } اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً ، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.