ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم . بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود :
( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين . .
إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدوا ، ولا يمدوا يدا بأذى .
ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول . وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة . كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة . فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه !
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبدالله بن سلام . ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه . ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود . فطلب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه ! فقالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا . فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم ، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به . فوقعوا فيه ، وقالوا قالة السوء ، وحذروا منه أحياء اليهود . وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي . فاعتزموا الكيد لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] كيدا لا هوادة فيه .
ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود !
لقد بدأت في أول الأمر حربا باردة ، بتعبير أيامنا هذه . بدأت حرب دعاية ضد محمد - عليه الصلاة والسلام - وضد الإسلام . واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله . اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة . واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض . بين الأوس والخزرج مرة ، وبين الأنصار والمهاجرين مرة . واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين . واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين . . و أخيرا أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين ، كالذي حدث في غزوة الأحزاب . .
وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة . وكان لكل منها شأن مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومع المسلمين .
فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود ، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر ؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته ، بعدما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم .
وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن اسحاق ما كان من أمرهم قال :
وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : " يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم " قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة . إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس .
وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال :
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها ، فصاحت . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، وشدت يهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال :
فحاصرهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى نزلوا على حكمه ، فقام عبد الله بن أبي بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا محمد أحسن في موالي . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرسلني . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا . ثم قال : ويحك ! أرسلني . قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربع مائة حاسر . وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود . تحصدهم في غداة واحدة . إني والله امرؤ أخشى الدوائر . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هم لك .
وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه . فقبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة ، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح . وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة .
وأما بنو النضير ، فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم . فلما أتاهم قالوا : نعم يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه . ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ?
ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة ، فألهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم . فتحصنوا منه في الحصون . وأرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول [ رأس النفاق ] أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم . إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم . ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم . وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال . وسألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح . ففعل . فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . و من أشرافهم - ممن سار إلى خيبر - سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب . . هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب .
والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة . وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلبا على المسلمين مع المشركين ، بتحريض من زعماء بني النضير ، وحيي بن أخطب على رأسهم . وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة .
ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين ، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حين انتهى إليه الخبر ، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومعهما عبدالله بن رواحة ، وخوات بن جبير - رضي الله عنهم - فقال " انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ? فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس . وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس " . . [ مما يصور ما كان يتوقعه [ صلى الله عليه وسلم ] من وقع الخبر في النفوس ] .
فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم . نالوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقالوا : من رسول الله ? لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ! . . ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالتلميح لا بالتصريح . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الله أكبر . أبشروا يا معشر المسلمين " . . [ تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف ] .
ويقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء ؛ واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم . حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين . . الخ .
فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب .
فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره ، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرا ؛ وكفى الله المؤمنين القتال . . رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة منصورا ، ووضع الناس السلاح ، فبينما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يغتسل من وعثاء المرابطة ، في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - إذ تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال : " أوضعت السلاح يا رسول الله ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . قال : " ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها ! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم " . ثم قال : " إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة " - وكانت على أميال من المدينة - . وذلك بعد صلاة الظهر . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . فسار الناس في الطريق ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا تعجيل المسير . وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يعنف واحدا من الفريقين .
وتبعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم [ صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى . . . ] رضي الله عنه - وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ثم نازلهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة . فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس - رضي الله عنه - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية . واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك . ولم يعلموا أن سعدا - رضي الله عنه - كان قد أصابه سهم في أكحله [ وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع ] أيام الخندق فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب وقال سعد - رضي الله عنه - فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنا لها وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . فاستجاب الله تعالى دعاءه . وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم ، طلبا من تلقاء أنفسهم .
فعند ذلك استدعاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من المدينة ليحكم فيهم . فلما أقبل - وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه - جعل الأوس يلوذون به ، يقولون : يا سعد إنهم مواليك ، فأحسن عليهم ويرققونه عليهم ويعطفونه . وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال - رضي الله عنه - : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فعرفوا أنه غير مستبقيهم !
فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال رسول الله : " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم .
فلما جلس قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك . فاحكم فيهم بما شئت " فقال - رضي الله عنه - : وحكمي نافذ عليهم ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . قال : وعلى من في هذه الخيمة ? قال : " نعم " . قال : وعلى من ها هنا [ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو معرض بوجهه عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إجلالا وإكراما وإعظاما ] . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . فقال - رضي الله عنه - : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم وأموالهم . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوقسبعة أرقعة " [ أي سماوات ] .
ثم أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالأخاديد فخدت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم . وكانوا ما بين السبع مائة ، والثماني مائة . وسبي من لم ينبت [ كناية عن البلوغ ] مع النساء والأموال . وفيهم حيي بن أخطب . وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم .
ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود ، وضعفت حركة النفاق في المدينة ؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم ، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون . وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين ، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم . حتى كان فتح مكة والطائف . ويمكن أن يقال : إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين . وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم ، وإنه كان فارقا واضحا بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها .
( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا ) .
والصياصي : الحصون . و الأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها ، ربما كانت أرضا مملوكة لبني قريظة خارج محلتهم . وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم . وربما كانت إشارة إلى تسليم بني قريظة أرضهم بغير قتال . ويكون الوطء معناه الحرب التي توطأ فيها الأرض .
( وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع ؛ وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله . وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله . ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة . تثبيتا لهذه الحقيقة الكبيرة ، التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة ، وبالقرآن بعد الأحداث ، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس .
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم . وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء .
وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية ؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها ، ولاتجاهها وتصوراتها . وتستقر القيم ، وتطمئن القلوب ، بالابتلاء وبالقرآن سواء !
{ وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ }أي : عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : بني قريظة من اليهود ، من بعض أسباط بني إسرائيل ، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما ، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه } [ البقرة : 89 ] ، فعليهم لعنة الله .
وقوله : { مِنْ صَيَاصِيهِم } يعني : حصونهم . كذا قال مجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وغيرهم{[23321]} ومنه سميت صياصي البقر ، وهي قرونها ؛ لأنها أعلى شيء فيها .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } : وهو الخوف ؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله{[23322]} صلى الله عليه وسلم ، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم ، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا{[23323]} في الدنيا ، فانعكس عليهم الحال ، وانقلب الفال{[23324]} ، انشمر{[23325]} المشركون ففازوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز ذلوا{[23326]} ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا ، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة ، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا }{[23327]} ، فالذين قتلوا هم المقاتلة ، والأسراء هم الأصاغر والنساء .
قال{[23328]} الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم بن بشير ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن عطية القرظي قال : عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ ، فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا : هل أنبت بعد ؟ فنظروا فلم يجدوني أنبت ، فخلى عني وألحقني بالسبي .
وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق ، عن عبد الملك بن عمير ، به{[23329]} . وقال الترمذي : " حسن صحيح " . ورواه النسائي أيضا ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن عطية ، بنحوه{[23330]} .
{ وأنزل الذين ظاهروهم } ظاهروا الأحزاب . { من أهل الكتاب } يعني قريظة . { من صياصيهم } من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك . { وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف وقرئ بالضم . { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } وقرئ بضم السين روي : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لامتك والملائكة لم يضعوا السلاح أن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم : تنزلون على حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة .