ثم نلقي بأبصارنا - من خلال الكلمات - إلى الفريق الآخر . فماذا نحن واجدون ? إنه التأنيب الطويل ، والتشهير المخجل ، والتذكير بشر الأقوال والأعمال :
( وأما الذين كفروا . أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فاستكبرتم ، وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم : ما ندري ما الساعة ! إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين ) !
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا } أي : إذا قال لكم المؤمنون ذلك ، { قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي : لا نعرفها ، { إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا } أي : إن نتوهم وقوعها إلا توهما ، أي مرجوحا {[26368]} ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي : بمتحققين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ إِنّ وعْدَ اللّهِ حَقّ وَالسّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ويقال لهم حينئذٍ : وَإذَا قِيلَ لكم إنّ وَعْدَ اللّهِ الذي وعد عباده ، أنه محييهم من بعد مماتهم ، وباعثهم من قبورهم حَقّ ، وَالسّاعَةُ التي أخبرهم أنه يقيمها لحشرهم ، وجمعهم للحساب والثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، آتية لا رَيْبَ فِيها يقول : لا شكّ فيها ، يعني في الساعة ، والهاء في قوله : فِيها من ذكر الساعة . ومعنى الكلام : والساعة لا ريب في قيامها ، فاتقوا الله وآمنوا بالله ورسوله ، واعملوا لما ينجيكم من عقاب الله فيها ، قُلْتُم ما نَدْرِي ما السّاعَةُ تكذيبا منكم بوعد الله جلّ ثناؤه ، وردّا لخبره ، وإنكارا لقُدرته على إحيائكم من بعد مماتكم .
وقوله : إنْ نَظُنّ إلاّ ظَنا يقول : وقلتم ما نظنّ أن الساعة آتية إلاّ ظنا وَما نحْنُ بِمُسْتَيْقِنينَ أنها جائية ، ولا أنها كائنة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة و السّاعَةُ رفعا على الابتداء . وقرأته عامة قرّاء الكوفة «والسّاعَةَ » نصبا عطفا بها على قوله : إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار صحيحتا المخرج في العربية متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقرأ حمزة وحده : «والساعةَ » بالنصب عطفاً على قوله : { وعد الله } ورويت عن أبي عمرو وعيسى والأعمش . وقرأ ابن مسعود : «حق وأن الساعة لا ريب فيها » ، وكذلك قرأ أيضاً الأعمش . وقرأ الباقون : «والساعةُ » رفعاً ، ولذلك وجهان : أحدهما الابتداء والاستئناف ، والآخر العطف على موضع { إن } وما عملت فيه ، لأن التقدير : وعد الله حق ، قاله أبو علي في الحجة . وقال بعض النحاة : لا يعطف على موضع { إن } ، إلا إذا كان العامل الذي عطلته { إن } باقياً ، وكذلك هي على موضع الباء في قوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا{[10285]}
فلما كانت ليس باقية ، جاز العطف على الموضع قبل دخول الباء ، ويظهر نحو هذا النظر من كتاب سيبويه ، ولكن قد ذكرنا ما حكى أبو علي وهو القدوة .
وقولهم : { إن نظن إلا ظناً } معناه : { إن نظن } بعد قبول خبركم { إلا ظناً } وليس يعطينا خبراً يقينا{[10286]} .
جملة { وإذا قيل إن وعد الله حق } إلخ عطف على جملة { فاستكبرتم } . والتقدير : وقلتم ما ندري ما الساعة إذا قيل لكم إن الساعة لا ريبَ فيها . وَهذانِ القولان مما تكرر في القرآن بلفظه وبمعناه ، فهو تخصيص لبعض آيات القرآن بالذكر بعد التعميم في قوله : { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم } .
والتعريف في { الساعة } للعهد وهي ساعة البعث ، أي زمان البعث كما عبر عنه باليوم . وقرأ الجمهور { والساعة لا ريب فيها } برفع { الساعة } عطف على جملة { إن وعد الله حق } . وقرأه حمزة وحده بنصب { والساعة } عطفاً على { إن وعد الله } من العطف على معمولي عامل واحد . ومعنى { ما ندري ما الساعة } ما نعلم حقيقة الساعة ونفي العلم بحقيقتها كناية عن جحد وقوع الساعة ، أي علمنا أنها لا وقوع لها ، استناداً للتخيلات التي ظنوها أدلةً كقولهم : { أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً } [ الإسراء : 49 ] .
وقوله : { إن نظن إلا ظناً } ظاهر في أنه متصل بما قبله من قولهم : { ما ندري ما الساعة } ، ومبين بما بعده من قوله : { وما نحن بمستيقنين } وموقعه ومعناه مشكل ، وفي نظمه إشكال أيضاً .
فأما الإشكال من جهة موقعه ومعناه فلأن القائلين موقنون بانتفاء وقوع الساعة لما حُكي عنهم آنفاً من قولهم : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } [ الجاثية : 24 ] الخ فلا يحق عليهم أنهم يظنون وقوع الساعة بوجه من الوجوه ولو احتِمالاً .
ولا يستقيم أن يطلق الظن هنا على الإيقان بعدم حصوله فيعضِل معنى قولهم { إن نظن إلا ظناً } ، فتأوله الفخر فقال : إن القوم كانوا فريقين ، وأن الذين قالوا { إن نظن إلا ظناً } فريق كانوا قاطعين بنفي البعث والقيامةِ وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } [ الجاثية : 24 ] . ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه وهم الذين أراد الله بهذه الآية اهـ .
وأقول : هذا لا يستقيم لأنه لو سلم أن فريقاً من المشركين كانوا يشكون في وقوع الساعة ولا يجزمون بانتفائه فإن جمهرة المشركين نافون لوقوعها فلا يناسب مقامَ التوبيخ تخصيصُه بالذين كانوا مترددين في ذلك . والوجه عندي في تأويله : إما يكون هذا حكاية لاستهزائهم بخبر البعث فإذا قيل لهم : { الساعة لا ريب فيها } قالوا استهزاء { ما نظنّ إلاّ ظنّاً } ، ويدل عليه قوله عقبه { وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون } [ الجاثية : 33 ] .
وتأوله ابن عطية بأن معناه إن نظن بعدَ قبول خبركم إلا ظنًّا وليس يعطينا يقيناً اه ، أي فهو إبطالهم لخصوص قول المسلمين : الساعة لا ريب فيها .
وأما إشكاله من جهة النظم فمرجع الإشكال إلى استثناء الظن من نفسه في قوله : { إن نظن إلا ظناً } فإن الاستثناء المفرغ لا يصح أنْ يكون مفرغاً للمفعول المطلق لانتفاء فائدة التفريغ . والخلاصُ من هذا ما ذهب إليه ابن هشام في « مغني اللّبيب » أن مصحح الاستثناء الظن من نفسه أن المسْتثنَى هو الظن الموصوفُ بما دل عليه تنكيره من التحقير المشعرِ به التنوينُ على حد قول الأعشى :
أحل به الشيب أثْقاله *** وما اغتره الشيبُ إلا اغترارا{[381]}
ومفعولا { نظن } محذوفان لدليل الكلام عليهما . والتقدير : إن نظن الساعةَ واقعة .
وقولهم : { وما نحن بمستيقنين } يفيد تأكيد قولهم { ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً } ، وعطفه عطف مرادف ، أي للتشريك في اللفظ . والسين والتاء في { بمستيقنين } للمبالغة في حصول الفعل .