اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَيۡبَ فِيهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ} (32)

قوله : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ } العامة على كسر الهمزة ؛ لأنها محكيَّةٌ بالقول ، والأعْرَجُ وعمرو بن فائدٍ بفتحها{[50748]} . وذلك مُخَرَّجُ على لغة سُلَيْمٍ يُجْرون القول مُجْرَى الظَّنِّ مطلقاً ومنه قوله :

4447 إذَا قُلْتُ أَنِّي آيِبٌ أهْلَ بَلْدَةِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[50749]}

قوله : «وَالسَّاعة : قرأ حمزة بنصبها عطفاً على «وَعْدَ اللهِ{[50750]} » والباقون برفعها ، وفيه ثلاثة أوجه :

الأول : الابتداء ، ما بعدها من الجملة المنفية خبرها{[50751]} .

الثاني : العطف على محل إنّ واسمها معاً ، لأن بعضهم كالفارسيِّ والزمخشري يَرَوْنَ أن ل «إنّ » واسْمِها موضعاً وهو الرفع بالابتداء{[50752]} .

قوله : «إلاَّ ظَنًّا » : هذه الآية لا بدّ فيها من تأويل ، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع معمولاته مرفوعاً كان أم غير مرفوع ، إلا المفعول المطلق ، فإنه لا يفرغ له ، لا يجوز : مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً ؛ لأنه لا فائدة ، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل ، فكأنه في قوة : مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْبت . قاله{[50753]} مكي وأبو البقاء{[50754]} . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا ؟ قلت : أصله نظن ظنًّا ، ومعناه إثبات الظن حسبُ ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيدُ نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله : { وَمَا نَحْنُ{[50755]} بِمُسْتَيْقِنِينَ } . فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها .

قال أبو حيان : وهذا كلام من لا شُعُور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعولٍ وغيرهما إلا المصدر المؤكد ، فإنه لا يكون فيه{[50756]} .

وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه :

أحدها : ماقاله المبرد وهو أن الأصل : إنْ نَحْنُ إلاَّ نَظُنُّ ظَنًّا{[50757]} قال : ونظيره ما حكاه أبو عمرو{[50758]} : لَيْسَ الطِّيبُ إلاَّ المسكُ . تقديره ليس إلا الطيبُ المسكُ . قال شهاب الدين : يعني أن اسم «ليس » ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك » في محل نصب خبرها . وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انْتَقَضَ نفيها «بإلا » قياساً على «ما الحجازية » . والمسألة طويلة مذكورة في كتب النحو{[50759]} ، وعليها حكاية جَرَتْ بين أبي عمرو ، وعيسى ببن عُمَرَ{[50760]} .

الثاني : أنّ «ظَنًّا : له صفة محذوفة تقديره : إلاّ ظَنًّا بَيِّناً ، فهو مختص لا مؤكد{[50761]} .

الثالث : أن يضمن ( نظن ) معنى «نعتقد » فينتصب «ظناً » مفعولاً به لا مصدراً{[50762]} .

الرابع : أن الأصْل إنْ نَظُنُّ إلاَّ أنَّكُم تَظُنُّونَ ظَنًّا ، فحذف هذا كله وهو معزوٌّ للمبرد أيضاً{[50763]} . وقد رده عليه من حيث إنه حذف إنّ واسمها وخبرها وأبقى المصدر .

وهذا لا يجوز{[50764]} .

الخامس : أن الظن يكون بمعنى العلم والشك ، فاستثني الشك كأنه قيل : مالنا اعتقاد إلاّ الشك{[50765]} . ومثل الآية قول الأعشى :

4448 وَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ *** وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلاََّ اغْتِرَارَا{[50766]}

يريد اغتراراً بيناً .

فصل

قال ابن الخطيب : القوم كانوا في هذه المسألة على قولين ، منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الجاثية : 24 ] ومنهم من كان شاكًّا متحيراً فيه ؛ لأنهم من كثرة ما سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحّته صاروا شاكين فيه ، وهم المذكورون في هذه الآية ، ويدل على ذلك أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ، ثم أتبعه بحكاية قول هؤُلاء ، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول .


[50748]:قراءة شاذة انظر مختصر ابن خالويه 138.
[50749]:صدر بيت من الطويل للحطيئة في وصف جمل وعجزه: وضعت بها عنه الولية بالهجر والولية: ما يوضع فوق ظهر البعير تحت الرجل، والهجر: نصف النهار عند اشتداد الحر. وآيب راجع. والشاهد فتح الهمزة بعد القول، فالقول هنا بمعنى الظن عاى لغة سليم وأن معمولاها سدت مسد المفعولين. وانظر التصريح 1/62، والأشموني 2/38 والدر المصون 4/841، والديوان 225.
[50750]:السبعة 595.
[50751]:البيان 2/366.
[50752]:الدر المصون 4/842 وقد قال المبرد في المقتضب: وتقول: إن زيدا منطلق وعمرا، وإن شئت وعمرو، وأحد وجهي الرفع ـ وهو الأجود منهما ـ أن تحمله على موضع "إن"، لأن موضعها الابتداء. فإذا قلت: إن زيدا منطلق فمعناه زيد منطلق. وانظر المقتضب 4/11. وهامشه أيضا 4/113. وقال أبو علي في الحجة 7/153: "والرفع الذي هو قراءة الجمهور من وجهين: أحدهما: أن تقطعه من الأول، فتعطف جملة على جملة. والآخر أن يكون المعطوف محمولا على موضع إن وما عملت فيه. وموضعها رفع" وانظر الحجة السابق. وقال الزمخشري في الكشاف: "وبالرفع عطفا على محل إن واسمها". الكشاف 3/513، كما ذكر ذلك في المفصل، ورده عليه ابن يعيش قائلا: "وقول صاحب الكتاب، ولأن محل المكسورة وما عملت فيه الرفع جاز في قولك: إن زيدا ظريف وعمرا أن ترفع المعطوف ليس بسديد، لأن إن وما عملت فيه ليس للجميع موضع من الإعراب، لأنه لم يقع موقع المفرد، وإنما المراد موضع اسم إن قبل دخولها على تقدير سقوط إن وارتفاع ما بعدها بالابتداء". انظر ابن يعيش 8/67.
[50753]:قال: "لأن المصدر فائدته كفائدة الفعل، فلو جرى الكلام على غير حذف لصار تقديره إن نظن إلا نظن وهذا كلام ناقص، ولم يجر النحويون: ما ضرب إلا ضربا لأن معناه ما ضربت إلا ضربت؛ وهذا كلام لا فائدة فيه". انظر المشكل 2/298.
[50754]:التبيان 1153.
[50755]:الكشاف 3/513 و514.
[50756]:البحر المحيط 8/52.
[50757]:انظر الدر المصون 4/843 ومشكل إعراب القرآن 2/298.
[50758]:وقد قال أبو عمرو: ليس في الأرض حجازي إلا وهو وينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع. وانظر ذيل الأمالي والنوادر39، وإنباه الرواة على أنباه النحاة 4/140 و131.
[50759]:فقد قال سيبويه في الكتاب: "وقد زعم بعضهم أن ليس تجعل كما، وذلك قليل، لا يكاد يعرف، فهذا يجوز أن يكون منه: ليس خلق الله أشعر منه... هذا كله سمع من العرب. والوجه والحد أن تحمله على أن في ليس إضمارا وهذا مبتدأ كقوله: إنه أمة الله ذاهبة، إلا أنهم زعموا أن بعضهم قال: ليس الطيب إلا المسك، وما كان الطيب إلا المسك". انظر الكتاب 1/147، والدر المصون 4/843.
[50760]:حكاها القالي في ذيل الأمالي والنوادر 39.
[50761]:ذكره ابن الأنباري في البيان 2/367، وانظر البحر المحيط 8/51.
[50762]:المرجع الأخير السابق، وقال أبو البقاء: "وقيل هي في موضعها لأن (نظن) قد تكون بمعنى العلم والشك، فاستثنى الشك أي ما لنا اعتقاد إلا الشك"، التبيان 1153.
[50763]:ذكر هذا التقدير مكي في مشكل الإعراب 2/298 لكن لم ينسبه إليه ولا إلى غيره. وقد نسبه إليه أبو حيان في البحر 8/52 وقال: ولعله لا يصح. ونسبه إليه السمين في الدر المصون 4/843 نقلا عن أستاذه وشيخه أبي حيان.
[50764]:هذا رأي أبي البقاء المرجع السابق الأخير.
[50765]:هذا رأي أبي البقاء في التبيان كما سبق 1153.
[50766]:هو له من بحر المتقارب، والمعنى أن الشيب جعله غافلا عما هو فيه غفلة واضحة. واغترارا من قولهم: اغتررت الرجل أي طلبت غفلته. والشاهد: ما اغتره الشيب إلا اغترارا حيث صح التنظير بالبيت على أن يحمل اغترارا على الموصوف الذي حذف صفته كما ذكر أعلى، فهو من الوجه الثاني الذي ذكره وقال الإمام ابن يعيش: "والتقدير: إن نحن إلا نظن ظنا، وما اغتره إلا الشيب اغترارا، فكان إلا في غير موقعها فهي مؤخرة والنية بها التقديم". وانظر شرح المفصل 7/107 وشرح الرضي على الكافية 1/236 والبحر 8/52، والدر المصون 4/844، والمغني 295 وشرح شواهده للسيوطي 704، وتمهيد القواعد 2/542 والديوان 80.