159- وأولئك الذين أنكروا عليكم أمر دينكم فريقان : فريق من أهل الكتاب الذين يعرفون الحق ويخفونه على علم وعناد ، وفريق المشركين الذين عميت قلوبهم عن الحق ، فاتخذوا أرباباً من دون الله ، فأهل الكتاب الذين عرفوا براهين صدقك تبينوا الحق في دينك ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها عن الناس ، أولئك يصب الله عليهم غضبه ويبعدهم عن رحمته ، ويدعو عليهم الداعون من الملائكة ومؤمني الثقلين - الجن والإنس - بالطرد من رحمة الله .
ومن بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة . مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضا :
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) . .
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد [ ص ] من حق ، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق ، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب . فهم وأمثالهم في أي زمان ، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله ، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة ، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة ، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه ، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها ، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدا عن سمع الناس وحسهم ، لغرض من أغراض هذه الدنيا . . الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة ، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة ( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) . .
كأنما تحولوا إلى ملعنة ، ينصب عليها اللعن من كل مصدر ، ويتوجه إليها - بعد الله - من كل لاعن !
واللعن : الطرد في غضب وزجر ، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته ، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب . فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان . .
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله - تعالى - لعباده في كتبه ، التي أنزلها على رسله .
قال{[3006]} أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب ، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم{[3007]} . يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء ، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فهؤلاء{[3008]} بخلاف العلماء [ الذين يكتمون ]{[3009]} فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا ، عن أبي هريرة ، وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سُئِل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار " {[3010]} . والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية{[3011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمار بن محمد ، عن ليث بن أبي سليم ، عن{[3012]} المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عُمَر{[3013]} عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فقال : " إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فيسمع كل{[3014]} دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني : دواب الأرض " {[3015]} .
[ ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به ]{[3016]} .
وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس . وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت البهائم : هذا من أجل عُصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم .
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني تلعنهم ملائكة الله ، والمؤمنون .
[ وقد جاء في الحديث ، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ، وجاء في هذه الآية : أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون ، واللاعنون أيضًا ، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ، أو يوم القيامة ، والله أعلم ]{[3017]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولََئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ }
يقول : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ، علماء اليهود وأحبارها وعلماء النصارى ، لكتمانهم الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم اتباعه ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل من البينات التي أنزلها الله ما بين من أمر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره ، أن أهلهما يجدون صفته فيهما .
ويعني تعالى ذكره بالهدى ، ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم ، فقال تعالى ذكره : إن الذين يكتمون الناس الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وصحة الملة التي أرسلته بها وحقيتها فلا يخبرونهم به ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم ، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلاّ الّذِينَ تَابُوا الآية . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج ، نفرا من أحبار يهود قال أبو كريب : عما في التوراة ، وقال ابن حميد عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّناتِ والهُدَى قال : هم أهل الكتاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ وَالْهُدَى قال : كتموا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، فكتموه حسدا وبغيا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهو دين الله ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ زعموا أن رجلاً من اليهود كان له صديق من الأنصار يقال له ثعلبة بن غنمة ، قال له : هل تجدون محمدا عندكم ؟ قال : لا . قال : محمد «البينات » .
القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ .
بعض الناس لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم ، وإياهم عنى تعالى ذكره بقوله : للنّاسِ في الكتاب ويعني بذلك التوراة والإنجيل . وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصّ من الناس ، فإنها معنيّ بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس . وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارِ » .
حدثنا به نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا حاتم بن وردان ، قال : حدثنا أيوب السختياني ، عن أبي هريرة ، قال : لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم . وتلا : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد عن يونس قال : قال ابن شهاب ، قال ابن المسيب ، قال أبو هريرة : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ إلى آخر الآية . والآية الأخرى : وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ إلى آخر الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ ، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزله الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وأمر دينه أنه الحق من بعدما بينه الله لهم في كتبهم ، يلعنهم بكتمانهم ذلك وتركهم تبيينه للناس . واللعنة الفَعْلة ، من لعنه الله بمعنى : أقصاه وأبعده وأسحقه . وأصل اللعن : الطرد ، كما قال الشماخ بن ضرار ، وذكر ماءً ورد عليه :
ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَيْتُ عَنْهُ مَقامَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِين
يعني مقام الذئب الطريد . واللعين من نعت الذئب ، وإنما أراد مقام الذئب الطريد واللعين كالرجل .
فمعنى الآية إذا : أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته ، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا : اللهم العنه ، إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد .
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا : من مسألتهم ربهم أن يلعنهم ، وقولهم : لعنه الله ، أو عليه لعنة الله لأن :
محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم ، قال : إذا أسنت السنة ، قالت البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره باللاعنين ، فقال بعضهم : عنى بذلك دوابّ الأرض وهوامها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : تلعنهم دوابّ الأرض وما شاء الله من الخنافس والعقارب تقول : نمنع القطر بذنوبهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمَن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : دوابّ الأرض العقارب والخنافس يقولون : منعنا القطر بخطايا بني آدم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : تلعنهم الهوامّ ودوابّ الأرض تقول : أُمسك القطر عنا بخطايا بني آدم .
حدثنا مشرف بن أبان الخطاب البغدادي ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب يقولون : منعنا القطر بذنوب بني آدم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : اللاعنون البهائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم تلعن عصاة بني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر فتخرج البهائم فتلعنهم .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم : الإبل والبقر والغنم ، فتلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض .
فإن قال لنا قائل : وما وجه الذين وجهوا تأويل قوله : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلى أن اللاعنين هم الخنافس والعقارب ونحو ذلك من هوامّ الأرض ، وقد علمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بني آدم ، فإنما تجمعه بغير الياء والنون وغير الواو والنون ، وإنما تجمعه بالتاء ، وما خالف ما ذكرنا ، فتقول اللاعنات ونحو ذلك ؟ قيل : الأمر وإن كان كذلك ، فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم أو غيرها مما حكم جمعه أن يكون بالتاء وبغير صورة جمع ذكران بني آدم بما هو من صفة الاَدميين أن يجمعوه جمع ذكورهم ، كما قال تعالى ذكره : وَقَالُوا لِجُلُودهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم إذ كلمتهم وكلموها ، وكما قال : يا أيّهَا النّملُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ وكما قال : والشّمْسَ وَالقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ .
وقال آخرون : عنى الله تعالى ذكره بقوله : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الملائكة والمؤمنين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : يقول اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الملائكة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : اللاعنون من ملائكة الله والمؤمنين .
وقال آخرون : يعني باللاعنين : كل ما عدا بني آدم والجن . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : قال البراء بن عازب : إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس معها عمود من حديد ، فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح ، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه ، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته ، إلا الثقلين الجن والإنس .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه ويَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال : الكافر إذا وضع في حفرته ضرب ضربة بمطرق فيصيح صيحة يسمع صوته كل شيء إلا الثقلين الجنّ والإنس فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه .
وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : اللاعنون : الملائكة والمؤمنون لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين ، فقال تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ . فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الاَخر الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس ، هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار ، وهم اللاعنون ، لأن الفريقين جميعا أهل كفر .
وأما قول من قال : إن اللاعنين هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهوامّها ، فإنه قول لا تدرك حقيقته إلا بخبر عن الله ، أن ذلك من فعلها ، تقوم به الحجة ، ولا خبر بذلك عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فيجوز أن يقال إن ذلك كذلك .
وإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال : إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجود بخلاف أهل التأويل ، وهو ما وصفنا . فإن كان جائزا أن تكون البهائم وسائر خلق الله تلعن الذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته ، بعد علمهم به ، وتلعن معهم جميع الظلمة ، فغير جائز قطع الشهادة في أن الله عنى باللاعنين البهائم والهوامّ ودبيب الأرض ، إلا بخبر للعذر قاطع ، ولا خبر بذلك وظاهر كتاب الله الذي ذكرناه دالّ على خلافه .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( 159 )
وقوله تعالى { إن الذين يكتمون } الآية ، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الطبري : «وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت ، وتتناول الآية بعد كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ( {[1470]} ) ، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه .
وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً ( {[1471]} ) . وقد ترك أبو هريرة ذلك( {[1472]} ) حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ( {[1473]} ) .
وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله : لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه «( {[1474]} ) ، ومن روى في كلام عثمان " لولا أنه في كتاب الله " فالمعنى غير هذا .
و { البينات والهدى } : أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير ، وقرأ طلحة بن مصرف » من بعد ما بينه «على الإفراد ، و { في الكتاب } يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية ، وقد تقدم معنى اللعنة .
واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع : الملائكة والمؤمنون ، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام( {[1475]} ) ، وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم( {[1476]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال
{ رأيتهم لي ساجدين }( {[1477]} ) [ يوسف : 4 ] ، وقال البراء بن عازب { اللاعنون } كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع »( {[1478]} ) ، وقال ابن مسعود : المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود »( {[1479]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال الثلاثة( {[1480]} ) لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يكتمون}، وذلك أن معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وحارثة بن زيد، سألوا اليهود عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعن الرجم وغيره فكتموهم، يعني اليهود، منهم: كعب ابن الأشرف، وابن صوريا، {ما أنزلنا من البينات}، يعني ما بين الله عز وجل في التوراة، يعني الرجم والحلال والحرام.
{والهدى}: أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فكتموه الناس.
{من بعد ما بيناه}: يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
{للناس في الكتاب}: لبني إسرائيل في التوراة.
{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}: وذلك أن الكافر يضرب في قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم، غير الجن والإنس، فيقولون: إنما كان يحبس عنا الرزق بذنب هذا، فتلعنهم الخليقة، فهم اللاعنون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات، علماء اليهود وأحبارها وعلماء النصارى، لكتمانهم الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل من البينات التي أنزلها الله ما بين من أمر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره، أن أهلهما يجدون صفته فيهما.
ويعني تعالى ذكره بالهدى، ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إن الذين يكتمون الناس الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وصحة الملة التي أرسلته بها وحقيتها فلا يخبرونهم به ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم، "أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلاّ الّذِينَ تَابُوا "الآية.
{مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ} [يعني] بعض الناس لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عنى تعالى ذكره بقوله: "للنّاسِ في الكتاب" ويعني بذلك التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصّ من الناس، فإنها معنيّ بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس. وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارِ».
{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ}... واللعنة الفَعْلة، من لعنه الله بمعنى: أقصاه وأبعده وأسحقه. وأصل اللعن: الطرد...
فمعنى الآية إذا: أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم، لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا: اللهم العنه، إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره باللاعنين...
فقال بعضهم: عنى بذلك دوابّ الأرض وهوامها.
وقال آخرون: عنى الله [بذلك]: الملائكة والمؤمنين.
وقال آخرون: يعني باللاعنين: كل ما عدا بني آدم والجن.
وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: اللاعنون: الملائكة والمؤمنون لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ}. فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الاَخر الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس، هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم اللاعنون، لأن الفريقين جميعا أهل كفر...
هذه الآية موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس؛ زاجرة عن كتمانها. ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي، موجبة أيضاً لبيان المدلول عليه منه وترك كتمانه لقوله تعالى {يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع. وقوله تعالى {يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص والدليل؛ لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها، وكذلك قوله تعالى {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} عام في الجميع. وكذلك ما علم من طرق إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية؛ لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه عليه السلام. فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ: قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ...} الْآيَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ». وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَن الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي منْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ...
المسألة الرابعة: هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوما، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى.
أما قوله تعالى: {أولئك يلعنهم الله} فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب.
أما قوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} فيجب أن يحمل على من للعنته تأثير، وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة...
قال القاضي: دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، ويدل على أن أحدا من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلا في الآية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والناس هنا: أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإِنجيل، وقيل: الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن. والأولى والأظهر عموم الآية في الكاتمين وفي الناس وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: « من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محَوْا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قوله عز وعلا: {فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} [البقرة، الآية 79] الخ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وقد اختلف الناس في صفة هذا الكتمان؛ فقال بعضهم: إنهم كانوا يحرفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم، وهو غير معقول إذا لا يمكن أن يتواطأ أهل الكتاب على ذلك في جميع الأقطار، ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب لظهر اختلاف كتبهم مع كتب إخوانهم في الشام وأوربة مثلا، ويذهب آخرون إلى أن الإنكار كان بالتحريف والتأويل وحمل الأوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوته على غيره حتى إذا سئلوا: هل لهذا النبي ذكر في كتبهم؟ قالوا: لا على أن في كتبهم أوصاف لا تنطبق إلا على نبي العرب وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشيعا فإنه لا يقبل التأويل إلا بغاية التحمل والتعسف. وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوة المسيح فإنهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا أنها لغيره، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير.
وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأويل بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والإرشاد بضروب التأويل أيضا حتى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه. وذكر جزائهم فقال {أولئك} أي الذين كتموا البينات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق. أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحل والاستقبال {يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} أما لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشي الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهي عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله {مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الدالات على الحق المظهرات له، {وَالْهُدَى} وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.
{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى: {وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق {يكتمون} الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.
واللام في قوله: {للناس} لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، وكرر فعل {يلعنهم} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إن الله وملائكته يصلون} [الأحزاب: 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن. والتعريف في: {اللاعنون} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة.
وكلمة (اللعن) وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة، وساعة تأتي للعذاب تكون للطرد والإبعاد بغضب، وهو الخلود في النار، وساعة يكون الطرد إبعاد تأديب، فلا يوجد بغضب؛ لأن المؤدّب لا يغضب على من يؤدبه، وإنما يغضب لمن يؤدبه. وعندما يحدث الطرد من بعد غضب، فذلك دليل على أنه ليس من بعد ذلك رجعة، فالإنسان إذا ترك لشيء صامت ليعذب به كالنار، يقول لنفسه: (ربما جاء من يرقّ لحالي ويعطف علي فيخرجني من النار)، إنه يقول ذلك لنفسه: لأن الذي يعذب به صامت لا عاطفة له، لكن ما المخرج إذا كانت اللعنة من الله والملائكة والناس؟ كما يقول الحق في آية أخرى: {أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين 87} (سورة آل عمران)... ويتضح لنا هنا أن لعنة الله تكون في الدنيا وفي الآخرة، ويلعنهم اللاعنون من الناس، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا فيها نجد أن اللعنة أشمل، لأن (اللاعنون) تضم الناس وغير الناس من الكائنات الأخرى، كأن كل من في الوجود يشترك في لعنهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الحقيقة أمانة اللّه لدى العلماء: ربما يكون المقصود بهؤلاء الذين يكتمون ما أنزل اللّه، أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصة، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التفاسير المتنوّعة، كما عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم. ولكنَّ الآية لا تتجمد عند النماذج التي نزلت فيهم أو انطلقت منهم، لأنَّ أسباب النزول تعتبر منطلقاً للفكرة من خلال النموذج الحيّ في عصر نزول الآية، لتتحرّك الفكرة من خلال الواقع الذي يقتحم على النّاس حياتهم في نطاق المشكلة الحية البارزة.
وفي ضوء ذلك، نقرّر أنَّ الآية واردة لتقرير المبدأ العام الشامل لكلّ النّاس الذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيّنات، وسُبُل الهدى، في ما بيّنه اللّه للنّاس في كتابه، سواء [أكان] من الكتب الأولى التي أنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، [أم] كان المراد به الكتاب الأخير الذي هو القرآن، فإنَّ الإنسان الذي يملك المعرفة يحمل مسؤوليتها أمام اللّه بأن يبينها للنّاس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها، لأنَّ في ذلك إخفاءً للحقيقة، وكتماناً للرسالة، ما يوجب وقوع النّاس في الضلال أو انحرافهم عن خطّ الحقّ وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة. وهذا مخالف للسنّة الإلهية التي درجت على إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، ليفتحوا عيون النّاس وقلوبهم على الحقيقة، وليخطّطوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم.
ولما كانت أعمار الأنبياء محدودة، وكانت وسائل وصول الرسالات والكتب السَّماوية مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تتحرّك فيها الرسالات، كان لزاماً على أتباع الأنبياء والرسالات أن يحملوا هذه الأمانة التي حملها الأنبياء، ويبلّغوها من جيل إلى جيل لتتصل الحلقات في سلسلة واحدة، ولترتكز المراحل المتعدّدة على أساس خطّة ثابتة ممتدة، ولتتحرّك الحياة في خطوات الرسالات خطوة خطوةً. ولولا ذلك لماتت الرسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الصدفة بانطلاقة مصلح أو متحمس تدفعه نزعته الإصلاحية أو حماسته الإيمانية إلى حمل الرسالة من جديد، وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة...