ثم يختم الأوامر والنواهي ، والتحضيض والترغيب ، بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يجسم موقفهم فيه ، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة . . على طريقة القرآن في مشاهد القيامة :
( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثًا . . )
إنه يمهد لمشهد القيامة ، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة . . وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعره . . وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما . . فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة ؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل ، بالإيمان والعمل . .
فأما هؤلاء . هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا ، ولم يقدموا عملا . . هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل . . فكيف يكون حالهم يومذاك ؟ كيف يكون الحال ، إذا جئنا من كل أمة بشهيد - هو نبيها الذي يشهد عليها - وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟
وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين{[7515]} يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ]{[7516]} } [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]{[7517]} } [ النحل : 89 ] .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يُوسُفَ ، حدثنا سفيانُ ، عن الأعْمَشِ ، عن إبراهيمَ ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ ؟ قال : " نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال : " حسبك الآن " فإذا عيناه تَذْرِفَان .
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش ، به{[7518]} وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رَزِين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو{[7519]} بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري ، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب{[7520]} لحياه وجنباه ، فقال : " يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ " {[7521]} .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " .
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في " التذكرة " {[7522]} حيث قال : باب{[7523]} ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة ، فيعرفهم بأسمائهم{[7524]} وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [ قد تقدم ]{[7525]} أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة . قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هََؤُلآءِ شَهِيداً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة ، فكيف بهم { إذا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بَشِهيدٍ } يعني : بمن يشهد عليها بأعمالها ، وتصديقها رسلها ، أو تكذيبها ، { وجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } يقول : وَجِئْنَا بك يا محمد على هؤلاء : أي على أمتك شهيدا ، يقول : شاهدا . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : إن النبيين يأتون يوم القيامة ، منهم من أسلم معه من قومه الواحد والاثنان والعشرة وأقلّ وأكثر من ذلك ، حتى يؤتى بقوم لوط صلى الله عليه وسلم لم يؤمن معه إلا ابنتاه ، فيقال لهم : هل بلغتم ما أرسلتم به ؟ فيقولون : نعم ، فيقال : من يشهد ؟ فيقولون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقال لهم : أتشهدون أن الرسل أوْدَعوا عندكم شهادة ، فبم تشهدون ؟ فيقولون : ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ ! فيقال : من يشهد على ذلك ؟ فيقولون : محمد صلى الله عليه وسلم . فيدعى محمد عليه الصلاة والسلام ، فيشهد أن أمته قد صدقوا ، وأن الرسل قد بلّغوا . فذلك قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : رسولها ، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم¹ { وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتى عليها فاضت عيناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، في قوله : { وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : الشاهد محمد ، والمشهود : يوم الجمعة . فذلك قوله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن عبد الله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن المسعودي ، عن القاسم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود : «اقْرأْ عَليّ ! » قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : «أنّي أُحِبّ أنْ أسَمعه مِنْ غيرِي » . قال : فقرأ ابن مسعود النساء ، حتى بلغ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : قال استعبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكفّ ابن مسعود . قال المسعودي : فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فإذَا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلْ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة ، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها ، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم ، ومعنى الآية : أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ومعنى «الأمة » في هذه الآية : غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء ، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي ، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر ، وكذلك قال المتأولون : إن الإشارة «بهؤلاء » إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و { كيف } في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية : ترى حالهم ، أو يكونون ، أو نحوه ، وقال مكي في الهداية : { جئنا } عامل في «كيف » ، وذلك خطأ ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور{[4049]} ، وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل ، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي ، كسؤال اللوح المحفوظ ، ثم إسرافيل ثم جبريل ، ثم الأنبياء ، فليست هذه آيته ، وإنما آيته { لتكونوا شهداء على الناس }{[4050]} .