23- حَرَّمَ الله عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، والمحرمات لغير النسب : أمهات الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة{[41]} ، وأمهات الزوجات وبنات الزوجات من غير الأزواج إذا دخلتم بهن ، وزوجات أبناء الصلب ، والجمع بين الأختين ، وما سلف في الجاهلية فإنه معفوٌّ عنه . إن الله غفور لما سلف قبل هذا النهج ، رحيم بكم فيما شرع لكم .
والفقرة الثالثة في هذا الدرس ، تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء . وهي خطوة في تنظيم الأسرة ، وفي تنظيم المجتمع على السواء :
( حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) . ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم - وأحل لكم ما وراء ذلكم . . . ) . .
والمحارم - أي اللواتي يحرم الزواج منهن - معروفة في جميع الأمم ، البدائية والمترقية على السواء . وقد تعددت أسباب التحريم ، وطبقات المحارم عند شتى الأمم ، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ، ثم ضاقت في الشعوب المترقية .
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها ، والآية التي بعدها . . وبعضها محرمة تحريما مؤبدا ، وبعضها محرمة تحريما مؤقتا . . وبعضها بسبب النسب ، وبعضها بسبب الرضاعة ، وبعضها بسبب المصاهرة .
وقد الغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى ، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى . كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها . والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد . .
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات :
أولاها : أصوله مهما علوا . فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) . .
وثانيتها : فروعه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا : ( وبناتكم ) . .
وثالثتها : فروع أبويه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته : ( وأخواتكم ) . . ( وبنات الأخ ، وبنات الأخت ) . .
ورابعتها : الفروع المباشرة لأجداده . فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته ، وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه ، وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه . . ( وعماتكم وخالاتكم ) . . أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم . ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات .
والمحرمات بالمصاهرة خمس : 1 - أصول الزوجة مهما علون . فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته ، وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة : سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل : ( وأمهات نسائكم ) . .
2- فروع الزوجة مهما نزلن . فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته ، وبنات أولادها ، ذكورا كانوا أم إناثا مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) . .
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين - مهما علوا - فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه ، وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا . . ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه . .
4- زوجات الابناء ، وأبناء الأولاد مهما نزلوا . فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه ، وامرأة ابن ابنه ، أو ابن بنته مهما نزل : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) . . وذلك إبطالا لعادة الجاهليةفي تحريم زوجة الابن المتبني . وتحديده بابن الصلب . ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم - كما جاء في سورة الأحزاب .
5- أخت الزوجة . . وهذه تحرم تحريما مؤقتا ، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل . والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه . .
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر . وهذه تشمل تسع محارم :
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن [ وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته ] .
3- الأخت من الرضاع ، وبناتها مهما نزلن ( وأخواتكم من الرضاعة ) .
4- العمة والخالة من الرضاع [ والخالة من الرضاع هي أخت المرضع . والعمة من الرضاع هي أخت زوجها ] .
5- أم الزوجة من الرضاع [ وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها ] وأصول هذه الأم مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة - كما في النسب .
6- بنت الزوجة من الرضاع [ وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل ] وبنات أولادها مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة .
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا [ والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته . فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب ، وهي أمه من الرضاع . بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع ] .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل .
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع ، أو عمتها أو خالتها من الرضاع ، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع . .
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصا في الآية . أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " . . [ أخرجه الشيخان ] . .
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ، ولم يذكر النص علة للتحريم - لا عامة ولا خاصة - فكل ما يذكر من علل ، إنما هو استنباط ورأي وتقدير . .
فقد تكون هناك علة عامة . وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم . وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم .
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ، ويضعفها مع امتداد الزمن . لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة ، تضاف استعداداتها الممتازة ، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها .
أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء ، وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف ، واحترام وتوقير ، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال - مع رواسب هذه الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .
أو يقال : إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور ، والأخت مع الأخت ، وأم الزوجة وزوجة الأب . . لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها ، والبنت والأخت كذلك ، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها ، أو أختها التي تتصل بها ، أو أمها ، وهي أمها ! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته . والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له ، لأنه سبقه على زوجته ! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب ، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب !
أو يقال : إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين ، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته ، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة .
وأيا ما كانت العلة ، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ، ولا بد فيه مصلحة . وسواء علمنا أو جهلنا ، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئا ، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ ، مع الرضى والقبول . فالإيمان لا يتحقق في قلب ، ما لم يحتكم إلى شريعة الله ، ثم لا يجد في صدره حرجا منها ويسلم بها تسليما .
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ، ونص التشريع القرآني المبين لها :
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية - فيما عدا حالتين اثنتين : ما نكح الآباء من النساء ، والجمع بين الأختين . فقد كانتا جائزتين - على كراهة من المجتمع الجاهلي . .
ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها . إنما حرمها ابتداء ، مستندا إلى سلطانه الخاص . وجاء النص : حرمت عليكم أمهاتكم . . إلخ . .
والأمر في هذا ليس أمر شكليات ؛ إنما هو أمر هذا الدين كله . وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله ، وللأصل الذي يقوم عليه : أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده . .
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده ، لأنهما أخص خصائص الألوهية . فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله . فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل ، ويحرم على الناس ما يحرم . وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك ، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق . لأن هذا مرادف تماما لدعوى الألوهية !
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل ، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح ، لأنه لا وجود له منذ الابتداء . فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت ، فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلانا أصليا ، ويعتبره كله غير قائم . بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره - لأنها ليست إلها - ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء . فإذا أحل شيئا كانت الجاهلية أو حرم شيئا كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشيء هذه الأحكام ابتداء . ولا يعتبر هذا منه اعتمادا لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها ، لأنها هي باطلة ، ثم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام . . وهي الله . .
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة . . إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم ، في نكاح ، ولا في طعام ، ولا في شراب ، ولا في لباس ، ولا في حركة ، ولا في عمل ، ولا في عقد ، ولا في تعامل ، ولا في ارتباط ، ولا في عرف ، ولا في وضع . . إلا أن يستمد سلطانه من الله ، حسب شريعة الله .
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئا في حياة البشر - كبر أم صغر - تصدر أحكامها باطلة بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحا واعتمادا لما كان منها في الجاهلية . إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام ، مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام .
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة ، وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته . وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده . مستندا في إنشائها إلى سلطانه الخاص .
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية ، وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه . . عني بتقرير المبدأ . فكان يسأل في استنكار : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ ) . . ( قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) . . ( قال : لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير . . إلخ ) . .
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي . وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده . وليس ذلك لأحد من البشر . . لا فرد ولا طبقة ولا أمة ، ولا الناس أجمعين . . إلا بسلطان من الله . وفق شريعة الله . . والتحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة ، وهو الدين . فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس . فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله ، فالناس إذن يدينون لله ، وهم إذن في دين الله . وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحدا غير الله ، فالناس إذن يدينون لهذا الأحد ؛ وهم إذن في دينه لا في دين الله .
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها . وهي مسألة الدين ومفهومه . وهي مسألة الإيمان وحدوده . . فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر ؟ أين هم من الدين ؟ وأين هم من الإسلام . . إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام ! ! !
ويليه الجزء الخامس مبدوءا بقوله تعالى : والمحصنات من النساء .
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب ، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : حُرمت عليكم سبع نَسَبًا ، وسبع صِهْرًا ، وقرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } الآية .
وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء{[6909]} عن عُمَير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ } فهن{[6910]} النسب .
وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : { وبناتكم } ؛ فإنها بنت فتدخل في العموم ، كما هو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل . وقد حُكيَ عن الشافعي شيء في إباحتها ؛ لأنها ليست بنتًا شرعية ، فكما لم تدخل في قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية . والله أعلم .
وقوله : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } أي كما تحرم{[6911]} عليك أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ؛ ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة " ، وفي لفظ لمسلم : " يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب " {[6912]} .
وقد قال بعض الفقهاء : كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور . وقال بعضهم : ست صور ، هي{[6913]} مذكورة في كتب الفروع . والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك ؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب ، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر ، فلا يرد{[6914]} على الحديث شيء أصلا البتة ، ولله الحمد .
ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية . وهذا قول مالك ، ويحكى عن ابن عمر ، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، والزُّهْرِي .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم ، من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُحرِّم المصةُ والمصتان " {[6915]} .
وقال قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم الفضل قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُحرم الرَّضْعَة ولا الرضعتان ، والمصَّة{[6916]} ولا المصتان " ، وفي لفظ آخر : " لا تحرم الإمْلاجَة ولا الإملاجتان " رواه مسلم{[6917]} .
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . ويحكى{[6918]} عن علي ، وعائشة ، وأم الفضل ، وابن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير ، رحمهم الله .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرة{[6919]} عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان فيما أنزل [ الله ]{[6920]} من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن . ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة نحو ذلك{[6921]} .
وفي حديث سَهْلة بنت سهيل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُرضِع مولى أبي حذيفة خمس رضعات{[6922]} وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يُرْضع خمس رضعات . وبهذا قال الشافعي ، رحمه الله [ تعالى ]{[6923]} وأصحابه . ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور . وكما{[6924]} قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة ، عند قوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ الآية : 233 ] .
واختلفوا : هل يحرم لبن الفَحْل ، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط ، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف ؟ على قولين ، {[6925]} تحرير هذا كله في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أما{[6926]} أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل . وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ أي ]{[6927]} في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن .
وقد فهم بعضُهم عود الضمير إلى الأمهات [ و ]{[6928]} الربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ؛ لقوله : { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }
وقال{[6929]} ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد عن قتادة ، عن خِلاس بن عَمْرو ، عن علي ، رضي الله عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن{[6930]} سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها .
وفي رواية عن قتادة ، عن سعيد ، عن زيد بن ثابت ؛ أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كُره أن يخلف على أمها ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل .
وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن حفص ، عن مسلم بن{[6931]} عويمر الأجدع أن{[6932]} بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال : فلم أجامعها حتى توفي عَمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر{[6933]} فقال : انكح أمها . قال : فسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها . فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر ، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عُمَر وابن عباس فكتب معاوية : إني لا أحلّ ما حَرم الله ، ولا أحرم ما أحل [ الله ] {[6934]} وأنت وذاك والنساء سواها كثير . فلم ينه{[6935]} ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها{[6936]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن سِمَاك بن الفضل ، عن رجل ، عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء ، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة . وفي{[6937]} إسناده رجل مبهم{[6938]} لم يسم .
وقال ابن جريج{[6939]} أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدًا قال له : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } أراد{[6940]} بهما الدخول جميعًا{[6941]} فهذا القول مروى كما ترى عن علي ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، ومجاهد ، وابن جبير{[6942]} وابن عباس ، وقد توقف فيه معاوية ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي . [ وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف ، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم ، وإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة ]{[6943]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة{[6944]} حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل{[6945]} له أمها ، أنه قال : إنها مبهمة ، فكرهها .
ثم قال : ورُويَ عن ابن مسعود ، وعمران بن حُصَين ، ومسروق ، وطاوس ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، ومكحول ، وابن سيرين ، وقتادة ، والزهري نحو ذلك . وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا ، ولله الحمد والمنة .
قال{[6946]} ابن جرير : والصواب ، أعنى قَوْلَ من قال : " الأم من المبهمات " ؛ لأن الله لم يشرط{[6947]} معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضًا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه . وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أنَّ في إسناده نظرًا ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم{[6948]} فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الابنة{[6949]} .
ثم قال : وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مُسْتَغْنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
وأما قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فجمهور{[6950]} الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له كقوله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]
وفي الصحيحين أن أم حَبيبة قالت : يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان - قال : " أو تحبين ذلك ؟ " قالت : نعم ، لَسْتُ لك بمُخْليَة ، وأحب من شاركني في خير أختي . قال : " فإن ذلك لا يَحل{[6951]} لي " . قالت : فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال{[6952]} بنْتَ أم سلمة ؟ " قالت{[6953]} نعم . قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي ، إنها لبنت{[6954]} أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن " . وفي رواية للبخاري : " إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي " {[6955]} .
فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف . وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل ، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف - عن ابن جريج ، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي ، فوجِدْت عليها ، فلقيني علي بن أبي طالب فقال : مالك ؟ فقلت : توفيت المرأة . فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف . قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي بالطائف قال : فانكحها . قلت : فأين قول الله [ عز وجل ]{[6956]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قال : إنها لم تكن في حجْرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك .
هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وهو قول غريب جدًّا ، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه . وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك ، رحمه الله ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عَرَض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله ، فاستشكله ، وتوقف في ذلك ، والله أعلم{[6957]} .
وقال ابن المنذر : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الأثرم ، عن أبي عبيدة قوله : { اللاتِي فِي حُجُورِكُم } قال : في بيوتكم .
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس ، عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سُئلَ عن المرأة وبنتها{[6958]} من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعًا . يريد أن أطَأهُمَا جميعا بملك يميني . وهذا منقطع .
وقال سُنَيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين{[6959]} له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم{[6960]} أكن لأفعله .
قال الشيخ أبو عُمَر بن عبد البر ، رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها{[6961]} من ملك اليمين ، لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } وملك اليمين هم{[6962]} تبع للنكاح ، إلا ما روي عن عُمَر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم . وروى{[6963]} هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة . وكذا قال قتادة عن أبي العالية .
ومعنى قوله تعالى : { اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أي : نكحتموهن . قاله ابن عباس وغير واحد .
وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها . قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها . قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها .
وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحرم{[6964]} ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومُبَاشرتها أو قبل{[6965]} النظر إلى فرجها بشهوة ، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع .
وقوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } أي : وحُرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَونهم في الجاهلية ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ]{[6966]} } الآية [ الأحزاب : 37 ] .
وقال ابن جُرَيْج : سألت عطاء عن قوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } قال : كنا نُحَدِّث ، والله أعلم ، أن رسول الله{[6967]} صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال{[6968]} المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[6969]} { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } ونزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] . ونزلت : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الجرح{[6970]} بن الحارث ، عن الأشعث ، عن الحسن بن محمد{[6971]} أن هؤلاء الآيات مبهمات : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ } { أُمَّهَاتُ نِسَائِكُم } ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك .
قلت : معنى{[6972]} مبهمات : أي عامة في المدخول بها وغير المدخول ، فتحرم{[6973]} بمجرد العقد عليها ، وهذا متفق عليه . فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة ، كما هو قول الجمهور ، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه ؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم : " يَحْرُم من الرّضاع{[6974]} ما يحرم من النسب " .
وقوله : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[6975]} } أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج ، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه . فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما{[6976]} سلف ، كما قال : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت{[6977]} أبدا . وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان خير ، فيمسك إحداهما{[6978]} ويطلق الأخرى لا محالة .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي وهْب الجيْشاني عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمَرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما{[6979]} .
ثم رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث ابن لهيعة . وأخرجه أبو داود والترمذي أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني . قال الترمذي : واسمه ديلم بن الهُوشَع ، عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه ، به وفي لفظ للترمذي : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اختر أيتهما{[6980]} شئت " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن{[6981]} .
وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرُّعَيْني{[6982]} قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تَزَوجْتُهما في الجاهلية ، فقال : " إذا رَجَعْتَ فَطلقْ إحداهما{[6983]} " {[6984]} .
قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ، ويحتمل أن يكون غيره ، فيكون أبو{[6985]} وهب قد رواه عن اثنين ، عن فيروز الديلمي ، والله أعلم .
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني{[6986]} حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا يحيى بن إسحاق ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة عن رُزَيق{[6987]} بن حكيم ، عن كثير بن مرة ، عن الديلمي قال : قلت : يا رسول الله ، إن تحتي أختين ؟ قال : " طَلق أيهما شئت " {[6988]} .
فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [ رضي الله عنه ]{[6989]} قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان ، والثاني هو أبو فيروز الديلمي ، رضي الله عنه ، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي{[6990]} المتنبئ لعنه الله .
وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين{[6991]} الأختين ، فكرهه ، فقال له - يعني السائل - : يقول الله عز وجل : { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقال له ابن مسعود : وبعيرك مما ملكت يمينك .
وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك . قال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن قَبيصة بن ذُؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحَرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا . قال مالك : قال ابن شهاب : أرَاه علي بن أبي طالب : قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري ، رحمه الله ، في كتابه " الاستذكار " : إنما كني قبيصة بن ذُؤيب عن علي بن أبي طالب ، لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه .
ثم قال أبو عمر ، رحمه الله : حدثني خلف بن أحمد ، رحمه الله ، قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد{[6992]} بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري{[6993]} عن موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[6994]} فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادًا ، ثم رغبت في الأخرى ، فما أصنع ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأ الأخرى . قلت : فإن ناسًا يقولون : بل تَزَوّجها ثم تطأ الأخرى . فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك . ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال : إلا الأربع - ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب .
ثم قال أبو عمر : هذا الحديث رحلة{[6995]} لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب{[6996]} إلى مكة غيره لما خابت رحلته{[6997]} .
قلت : وقد روي عن علي نحو ما تقدم{[6998]} عن عثمان ، وقال أبو بكر بن مردويه :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّمي{[6999]} حدثنا عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا سفيان ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين - قال ابن عباس : يحرمهن علي قرابتي منهن ، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء - وكانت الجاهلية يحرمون ما تُحَرَّمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلما جاء الإسلام أنزل الله [ عز وجل ]{[7000]} { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } يعني : في النكاح .
ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد{[7001]} بن حنبل : حدثنا محمد بن سلمة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد . وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك .
قال أبو عمر ، رحمه الله : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف ، منهم : ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب ، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونَفْي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك{[7002]} ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحل ذلك في النكاح . وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [ تعالى ]{[7003]} { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ] {[7004]} } إلى آخر الآية : أن النكاح وملك{[7005]} اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب . وكذلك هو عند جمهورهم ، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ، والله المحمود{[7006]} .
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } .
يعني بذلك تعالى ذكره : حرّم عليكم نكاح أمهاتكم ، فترك ذكر النكاح اكتفاء بدلالة الكلام عليه .
وكان ابن عباس يقول في ذلك ، ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع . ثم قرأ : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ } حتى بلغ : { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : والسابعة { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النّساءِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : يحرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ } . . . إلى قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا ابن بشار مرة أخرى ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : حرم عليكم سبع نسبا وسبع صهرا . { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وأخَوَاتُكُمْ } قال : حرّم الله من النسب سبعا ، ومن الصهر سبعا ، ثم قرأ : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن عمرو بن سالم مولى الأنصار ، قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع : حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت . ومن الصهر : أمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ ، فإن لم تكونوا دخلتم بهن ، فلا جناح عليكم ، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف . ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكتْ أيمَانُكُمْ } ، { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النّساءِ } .
فكل هؤلاء اللواتي سماهنّ الله تعالى وبين تحريمهنّ في هذه الاَية محرّمات غير جائز نكاحهنّ لمن حرّم الله ذلك عليه من الرجال ، بإجماع جميع الأمة ، لا اختلاف بينهم في ذلك ، إلا في أمهات نسائنا اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن في نكاحهنّ اختلافا بين بعض المتقدمين من الصحابة إذا بانت الابنة قبل الدخول بها من زوجها ، هل هنّ من المبهات ، أم هنّ من المشروط فيهنّ الدخول ببناتهنّ . فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم : من المبهمات ، وحرام على من تزوّج امرأة أمها دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها ، وقالوا : شرط الدخول في الربيبة دون الأم ، ، فأما أم المرأة فمطلقة بالتحريم . قالوا : ولو جاز أن يكون شرط الدخول في قوله : { وَرَبائِبِكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمُ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } فوضع موصولاً به قوله : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ } جاز أن يكون الاستثناء في قوله : { وَالمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } من جميع المحرّمات بقوله : { حُرْمَتْ عَلَيْكُمْ } . . . الاَية ، قالوا : وفي إجماع الجميع على أن الاستثناء في ذلك إنما هو مما وليه من قوله : { والمُحْصَناتُ } أبين الدلالة على أن الشرط في قوله : { مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } مما وليه من قوله : { وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } دون أمهات نسائنا . وروي عن بعض المتقدمين أنه كان يقول : حلال نكاح أمهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهنّ ، وإن حكمهنّ في ذلك حكم الربائب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عليّ رضي الله عنه في رجل تزوّج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوّج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قتادة ، عن خلاس ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : هي بمنزلة الربيبة .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : إذا ماتت عنده ، وأخذ ميراثها ، كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوّج أمها .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني عكرمة بن خالد ، أن مجاهدا قال له : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمْ } أريد بهما الدخول جميعا .
قال أبو جعفر : والقول الأوّل أولى بالصواب ، أعني قول من قال : الأم من المبهمات ، لأن الله لم يشرط معهنّ الدخول ببناتهنّ ، كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه .
وقد رُوي بذلك أيضا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أن في إسناده نظرا ، وهو ما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا نَكَحَ الرّجُلُ المَرأةَ فَلا يَحِلّ لَهُ أنْ يَتَزَوّجَ أُمّها ، دَخَلَ بالابْنَةِ أمْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَإذَا تَزَوّجَ الأُمّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمّ طَلّقَها ، فإنْ شاءَ تَزَوّجَ الابْنَة » .
قال أبو جعفر : وهذا خبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال لعطاء : الرجل ينكح المرأة لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها ، أيحلّ له أمها ؟ قال : لا ، هي مرسلة . قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } ؟ قال : لا تبرأ¹ قال حجاج : قلت لابن جريج : ما تبرأ ؟ قال : كأنه قال : لا لا .
وأم الربائب فإنه جمع ربيبة وهي ابنة امرأة الرجل ، قيل لها ربيبة لتربيته إياها ، وإنما هي مربوبة صرفت إلى ربيبة ، كما يقال : هي قبيلة من مقبولة ، وقد يقال لزوج المرأة : هو ربيب ابن امرأته ، يعني به : هو رابّه ، كما يقال : هو جابر وجبير ، وشاهد وشهيد .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } فقال بعضهم معنى الدخول في هذا الموضع : الجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } والدخول : النكاح .
وقال آخرون : الدخول في هذا الموضع : هو التجريد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء ، قوله : { اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } ما الدخول بهنّ ؟ قال : أن تهدى إليه فيكشف ويعتسّ ، ويجلس بين رجليها . قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها . قلت : تحرم الربيبة ممن يصنع هذا بأمها إلا ما يحرم عليّ من أمتي إن صنعته بأمها ؟ قال : نعم سواء . قال عطاء : إذا كشف الرجل أمته وجلس بين رجليها أنهاه عن أمها وابنتها .
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس ، من أن معنى الدخول : الجماع والنكاح ، لأن ذلك لا يخلو معناه من أحد أمرين : إما أن يكون على الظاهر المتعارف من معاني الدخول في الناس ، وهو الوصول إليها بالخلوة بها ، أو يكون بمعنى الجماع ، وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرّم عليه ابنتها إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها ، أو قبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدلّ على أن معنى ذلك : هو الوصول إليها بالجماع . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه .
وأما قوله : { فإنْ لمْ تَكُونُوا دخَلْتُمْ بِهِنّ فَلا جُناح عَلَيْكُمْ } فإنه يقول : فإن لم تكونوا أيها الناس دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم ، فجامعتموهنّ حتى طلقتموهنّ ، { فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم } يقول : فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك .
وأما قوله : { وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } فإنه يعني : وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم ، وهي جمع حليلة وهي امرأته ، وقيل : سميت امرأة الرجل حليلته ، لأنها تحلّ معه في فراش واحد . ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح ، دخل بها أو لم يدخل بها .
فإن قال قائل : فما أنت قائل في حلائل الأبناء من الرضاع ، فإن الله تعالى إنما حرّم حلائئل أبنائنا من أصلابنا ؟ قيل : إن حلائل الأبناء من الرضاع ، وحلائل الأبناء من الأصلاب سواء في التحريم ، وإنما قال : { وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمْ الّذِين مِنْ أصْلابِكُمْ } لأن معناه : وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتوهم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء ، قوله : { وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } قال : كنا نُحَدّث والله أعلم أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة ، قال المشركون في ذلك ، فنزلت : { وَحَلائِلُ أبْنائِكمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } ، ونزلت : { وَما جَعَلَ أدْعِياءكُمْ أبْناءَكُمْ } ، ونزلت : { ما كانَ مُحَمّد أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ } .
وأما قوله : { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } فإن معناه : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح ، ف«أن » في موضع رفع ، كأنه قيل : والجمع بين الأختين . { إلاّ ما قدْ سلفَ } لكن ما قد مضى منكم . { فإنّ اللّهَ كانَ غفورا } لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها . { رَحِيما } بهم فيما كلفهم من الفرائض وخفف عنهم فلم يحملهم فوق طاقتهم . يخبر بذلك جلّ ثناؤه أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته وقيل تحريمه ذلك ، إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه فأطاعه باجتنابه ، رحيم به وبغيره من أهل طاعته من خلقه .
{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن أنه معظم ما يقصد منهن ، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله : { حرمت عليكم الميتة } ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت ، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت ، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة . وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا ، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى . { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نزل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما والمرضعة أختا ، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) . واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب . { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة ، لأن لها لحمة كلحمة النسب ، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج ، والربائب جمع ربيبة . والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر ، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسما ومن نسائكم متعلق بربائبكم . واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم . ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية ، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله :
إذا حاولت في أسد فجورا *** فإني لست منك ولست مني
على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها " إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها " . وإليه ذهب عامة العلماء ، غير أنه روي عن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما . ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف ، وفائدة قوله { في حجوركم } تقوية العلة وتكميلها ، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة ، وإليه ذهب جمهور العلماء . وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطا ، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة ، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع ، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة ، أو ملك يمين . وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول . { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } تصريح بعد إشعار دفعا للقياس . { وحلائل أبنائكم } زوجاتهم ، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج . { الذين من أصلابكم } احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد { وأن تجمعوا بين الأختين } في موضع الرفع عطفا على المحرمات ، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين ، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما حرمتهما آية وأحلتهما آية ، يعنيان هذه الآية . وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فرجح علي كرم الله وجهه التحريم ، وعثمان رضي الله عنه التحليل . وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام " { إلا ما قد سلف } استثناء من لازم المعنى ، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله : { إن الله كان غفورا رحيما } .
تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغُيِّر أسلوب النهي فيه لأنّ ( لا تفعل ) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي ، أو إمكان التلبّس به ، بخلاف { حرمت } فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر ، ولذلك قال ابن عباس : « كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمعَ بين الأختين » فمن أجل هذا أيضاً نجد حكم الجمع بين الأختين عُبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل : { وأن تجمعوا بين الأختين } .
وتعلُّقُ التحريم بأسماء الذوات يُحمل على تحريم ما يُقصد من تلك الذات غالباً فنحو { حرمت عليكم الميتة } إلخ معناه حُرّم أكلها ، ونحو : حرّم الله الخمر ، أي شربها ، وفي { حرمت عليكم أمهاتكم } معناه تزوجهنّ .
والأمّهات جمع أُمَّةٍ أو أُمَّهةٍ ، والعرب أماتوا أمَّهة وأمَّه وأبقوا جمعه ، كما أبْقوا أُمّ وأماتوا جمعه ، فلم يسم منهم الأمَّا ، وورد أُمَّة نادراً في قول قول شاعر أنشده ابن كيسان :
تقبلتَها عن أمَّةٍ لكَ طَالما *** تُنوزعَ في الأسواق منها خمارُها
وورد أمهة نادراً في بيت يُعزى إلى قصي بن كلاب :
عند تناديهم بهَاللٍ وهَبي *** أمَّهَتي خِندفُ وإليَاسُ أبي
وجاء في الجمع أمَّهات بكثرة ، وجاء أمَّات قليلاً في قول جرير :
لقد ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوء *** مقلَّدة من الأمَّات عارا
وقيل : إنّ أمَّات خاصّ بما لا يعقل ، قال الراعي :
كانت نَجَائبُ مُنْذِر ومُحَرّق *** أمَّاتهنّ وطرقُهُنّ فَحيلا
فيحتمل أنّ أصل أم أمَّا أو أمَّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع .
ومن غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب ، إذ كان على حرفين ، وأخ ، وابن ، وابنة ، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللُّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة ، ثمّ تطوّرت اللُّغةُ عليها وهي هي . والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها ، وهؤلاء المحرّمات من النسب ، وقد أثبت الله تعالى تحريم مَنْ ذكَرَهنّ ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها ، تأكيداً لذلك التحريم وتغليظاً له ، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل ، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه السلام ، وكانت الأخت التوأمة حراماً وغيرُ التوامة حلالا ، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقاً من عهد نوح عليه السلام ، ثم حرّمت بنات الأخ ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه السلام ، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى ، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره ، عن ابن عباس : أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت مُحرّمة في الجاهلية ، إلاّ امرأة الأب ، والجمعَ بين الأختين . ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله : { إلا ما قد سلف } في هذبن خاصة ، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول { إلا ما قد سلف } بأنّ معناه : إلاّ ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه ، كما سيأتي ، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة ، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية .
واعلم أنّ شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة ، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللَّهو والرفث ، إذ الزواج ، وإن كانّ غرضاً صالحاً باعتبار غايته ، إلاّ أنّه لا يفارق الخاطرَ الأوّل الباعث عليه ، وهو خاطر اللهو والتلذّذ .
فوقار الولادة ، أصلا وفرعا ، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة ، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه ، ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات ، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل ، وكذلك سرى وَقار الآباء إلى أخوات الآباء ، وهنّ العمّات ، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات ، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العِرض ، من قسم المناسب الضروري ، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري . و ( ال ) في قوله : { وبنات الأخ وبنات الأخت } عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم .
وقوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } سمّى المراضع أمهّات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة . ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات ، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله : { اللاتي أرضعنكم } دفعاً لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى .
وقد أجملت هنا صفةُ الإرضاع ومدّتُه وعدَده إيكالا للناس إلى متعارفهم . وملاك القول في ذلك : أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به ، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثَر الأمّ في أصل حياة طفلها . فلا يعتبر الرضاع سبباً في حرمة المرضع على رضيعها إلاّ ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « إنّما الرضاعة من المجاعة » . وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقد تقدّم في سورة البقرة ( 233 ) . ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره ، بذلك قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وقال أبو حنيفة : المدّة حولان وستّة أشهر . وروى ابن عبد الحكم عن مالك : حولان وأيّام يسيرة . وروى ابن القاسم عنه : حولان وشهران . وروى عنه الوليدُ بن مسلم : والشهران والثلاثة .
والأصحّ هو القول الأوّل ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبي أمر سَهْلَة بنتَ سُهيل زوجةَ أبي حُذيفة أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجابَ أرضعتْه ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لِسَهْلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبَيْن أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير . وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به .
وأمَّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم ، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصَّة واحدة عند أغلب الفقهاء ، وقد كان الحكم في أوّل أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلاّ بعشر رضعات ثمّ نسخن بخمس ، لحديث عائشة « كان فيما أنزل الله عشرُ رضعات معلومات يحرّمْن ثمّ نسخن بخمس معلومات فتوفيّ رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن » وبه أخذ الشافعي . وقال الجمهور : هو منسوخ ، وردّوا قولها ( فتوفّي رسول الله وهي فيما يُقرأ ) بنسبة الراوي إلى قلّة الضبط لأنّ هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فظاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك .
وقوله تعالى : { وأخواتكم من الرضاعة } إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب ، كما تقدّم في إطلاق الأمّ على المرضع . والرضاعة بفتح الراء اسم مصدر رضع ، ويجوز كسر الراء ولم يقرأ به . ومحلّ { من الرضاعة } حال من { أخواتكم } و ( من ) فيه للتعليل والسببية ، فلا تعتبر أخوَّة الرضاعة إلاّ برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد .
وقوله : { وأمهات نسائكم } هؤلاء المذكورات إلى قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هنّ المحرّمات بسبب الصِّهر ، ولا أحسب أنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون شيئاً منها ، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهنّ أعظم حرمة من جميع نساء الصهر ، فكيف يظنّ أنهم يحرّمون أمّهات النساء والربائب وقد أشيع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوّج دُرّةَ بنتَ أبي سَلَمة وهي ربيبته إذ هي بنت أمّ سلمة ، فسألته إحدى أمّهات المؤمنين فقال : " لو لم تكن ربيبتي لما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبَا سَلَمة ثويبة " وكذلك حلائل الأبناء إذ هنّ أبعدُ من حلائل الآباء ، فأرى أنّ هذا من تحريم الإسلام وأنّ ما حكى ابن عطية عن ابن عباس ليس على إطلاقه .
وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة ، وقطع الغيرة ، بين قريب القرابة حتّى لا تفضي إلى حزازات وعداوات ، قال الفخر : « لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل امرأتُه وابنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة . ولتعطّل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمية فقد تمتدّ عين البعض إلى البعض وتشتدّ الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهنّ ، والإيذاء من الأقارب أشدّ إيلاماً ، ويترتّب عليه التطليق ، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع ، وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فيبقى النكاح بين الزوجين سليماً عن هذه المفسدة » قلت : وعليه فَتحريم هؤلاء من قسم الحاجيّ من المناسب .
والربائب جمع ربيبة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة ، من ربَّه إذا كفله ودبّر شؤونه ، فزوج الأمّ رابٌّ وابنتها مربوبة له ، لذلك قيل لها ربيبة .
والحُجور جمع حِجْر بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم وهو ما يحويه مجتمع الرّجلين للجالس المتربّع . والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة ، لأنّ أوّل كفالة الطفل تكون بوضعه في الحَجر ، كما سمّيت حضانة ، لأنّ أوّلها وضع الطفل في الحضن .
وظاهر الآية أنّ الربيبة لا تحرم على زوج أمّها إلاّ إذا كانت في كفالته ، لأن قوله { اللاتي في حجوركم } وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } فظاهر هذا أنّها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم . ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب ، رواه ابن عطية ، وأنكر ابن المنذر والطحاوي صحّة سند النقل عن علي ، وقال ابن العربي : إنّه نَقْل باطل . وجزم ابن حزم في المحلَّى بصحّة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمرَ بن الخطاب . وقال بذلك الظاهرية ، وكأنّهم نظروا إلى أنّ علّة تحريمها مركّبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجرها إذا كانت في حجره وأمّا جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجاً مخرج الغالب ، وجعلوا الربيبة حراماً على زوج أمّها ، ولو لم تكن هي في حجره . وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علّة تحريم المحرّمات بالصهر ، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدّم . وعندي أنّ الأظهر أنّ يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل : أي لأنهنّ في حجوركم ، وهو تعليل بالمظنّة فلا يقتضي اطّراد العلّة في جميع مواقع الحكم .
وقوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر قوله : { من نسائكم } ليُبنى عليه { اللاتي دخلتم بهن } وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلاّ إذا وقع البناء بأمّها ، ولا يحرّمها مجرّد العقد على أمّها ، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله : { وأمهات نسائكم } بل أطلق الحكم هناك ، فقال الجمهور هناك : أمّهات نسائكم معناه أمّهات أزواجكم ، فأمّ الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأنّ العقد يصيرّها امرأته ، ولا يلزم الدخول ولم يحْمِلوا المطلق منه على المقيَّد بعده ، ولا جعلوا الصفة راجعة للمتعاطفات لأنّها جرت على موصوف مُتعيِّنٍ تعلّقه بأحد المتعاطفات ، وهو قوله : { من نسائكم } المتعلق بقوله : وربائبكم ولا يصلح تعلّقه ب { أمّهات نسائكم } .
وقال علي بن أبي طالب ، وزيدُ بن ثابت ، وابنُ عمر ، وعبد الله بن عبّاس ، ومجاهد ، وجابر ، وابن الزبير : لا تحرم أمّ المرأة على زوج ابنتها حتّى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيّد ، وهو الأصحّ مَحملاً . ولم يستطع الجمهور أن يوجّهوا مذهبهم بعلّة بيّنة ، ولا أن يستظهروا عليه بأثر . وعلّة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علّة تحريم ربيبة الرجل عليه ، ويظهر أنّ الله ذكر أمّهات النساء قبل أن يذكر الربائب ، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمّهات في تحريمهنّ على أزواج بناتهنّ لذكره في أوّل الكلام قبل أن يذكره مع الربائب .
وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنّه قال : إذا طلّق الأمّ قبل البناء فله التزوّج بابنتها ، وإذا ماتت حَرُمت عليه ابنتُها . وكأنّه نظر إلى أنّ الطلاق عدول عن العقد ، والموت أمر قاهر ، فكأنّه كان ناوياً الدخول بها ، ولا حظّ لهذا القول .
وقوله : { وحلائل أبنائكم } الحلائل جمع الحليلة فعيلة بمعنى فاعلة ، وهي الزوجة ، لأنّها تحِلّ معه ، وقال الزجّاج : هي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي محلّلة إذ أباحها أهلها له ، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم حكيم ، والعدول عن أن يقال : ومَا نكح أبناؤكم أو ونساء أبنائكم إلى قوله : { وحلائل أبنائكم } تفنّن لتجنّب تكرير أحد اللفظين السابقين وإلاّ فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة .
وقد سُمي الزوج أيضاً بالحليل وهو يحتمل الوجهين كذلك . وتحريم حليلة الابن واضح العلّة ، كتحريم حليلة الأب .
وقوله : { الذين من أصلابكم } تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز ، إذ كانت العرب تسمّي المتبنَّى ابناً ، وتجعل له ما للابن ، حتّى أبطل الإسلام ذلك وقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] فما دُعي أحد لمتبنّيه بعدُ ، إلاّ المقداد بن الأسود وعُدّت خصوصيّة . وأكّد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتزوّج زينب ابنة جحش ، بعد أن طلّقها زيد بن حارثة الذي كان تبنّاه ، وكان يُدعى زيد بن محمد . وابن الابن وابن البنت ، وإن سفلا ، أبناء من الأصلاب لأنّ للجدّ عليهم ولادة لا محالة .
وقوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع الغيرة عمّن يريد الشرع بقاء تمام المودّة بينهما ، وقد علم أنّ المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة ، وهو النكاح أصالة ، ويلحق به الجمع بينهما في التسرّي بملك اليمين ، إذ العلّة واحدة فقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } وقوله :
{ إلا ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 24 ] يخصّ بغير المذكورات . وروي عن عثمان بن عفّان : أنّه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال : « أحلتهما » آية يعني قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وحرّمتهما آية يعني هذه الآية ، أي فهو متوقّف . وروي مثله عن علي ، وعن جمع من الصحابة ، أنّ الجمع بينهما في التسرّي حرام ، وهو قول مالك . قال مالك « فإن تسرّى بإحدى الأختين ثمّ أراد التسرّي بالأخرى وقف حتى يحرّم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحدّ إذا جمع بينهما » . وقال الظاهرية : يجوز الجمع بين الأختين في التسرّي لأنّ الآية واردة في أحكام النكاح ، أمّا الجمع بين الأختين في مجرَّد الملك فلا حظر فيه .
وقوله : { إلا ما قد سلف } هو كنظيره السابق ، والبيان فيه كالبيان هناك ، بيد أنّ القرطبي قال هنا : ويحتمل معنى زائداً وهو جواز ما سلف وأنّه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً وإذا جرى الجمع في الإسلام خيّر بين الأختين من غير إجراء عقود الكفّار على مقتضى الإسلام ، ولم يعزُ القول بذلك لأحد من الفقهاء .
وقوله : { إن الله كان غفوراً رحيماً } يناسب أن يكون معنى { إلا ما قد سلف } تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية ، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه ، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز .