وفي نهاية الشوط يربط السياق بين نواميس الكون في خلقه وتكوينه وتصريفه ؛ ونواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها :
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد . أفإن مت فهم الخالدون ? كل نفس ذائقة الموت ، ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا ترجعون ) . .
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد . فكل حادث فهو فان . وكل ما له بدء فله نهاية . وإذا كان الرسول [ ص ] يموت فهل هم يخلدون ? وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعملون عمل أهل الموتى ? وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون ?
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : يا محمد ، { الْخُلْدَ } أي : في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27 ] .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر ، عليه السلام ، مات وليس بحي إلى الآن ؛ لأنه بشر ، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } .
وقوله : { أَفَإِنْ مِتَّ } أي : يا محمد ، { فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ؟ ! أي : يؤملون أن يعيشوا بعدك ، لا يكون هذا ، بل كل إلى فناء ؛ ولهذا قال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما خَلّدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها ، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رُسُلُنا . أفإنْ مِتّ فَهُمُ الخالِدُونَ يقول : فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ؟ لا ، ما ذلك كذلك ، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ فأدخلت الفاء في «إن » وهي جزاء ، وفي جوابه لأن الجزاء متصل بكلام قبله ، ودخلت أيضا في قوله «فهم » لأنه جواب للجزاء ، ولو لم يكن في قوله «فهم » الفاء جاز على وجهين : أحدهما : أن تكون محذوفة وهي مرادة ، والاَخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء ، فكأنه قال : أفهم الخالدون إن متّ .
قيل إن سبب هذه الآية أن بعض المسلمين قال إن محمداً لن يموت وإنما مخلد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكره ونزلت هذه الآية والمعنى لم نخلد أحداً ولا أنت لا نخلدك وينبغي أن لا ينتقم أحد من المشركين عليك في هذا أهم مخلدون إن مت أنت فيصح لهم انتقام{[8218]} ، وقيل إن سبب الآية أن كفار مكة طعنوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه بشر وأنه يأكل الطعام ويموت فكيف يصبح إرساله فنزلت الآية رادة عليهم ، وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط وقدمت في أول الجملة لأن الاستفهام له صدر الكلام والتقدير أفهم { الخالدون } إن مت ، والفاء في قوله «فإن » عاطفة جملة على جملة ، وقرأت فرقة «مُت » بضم الميم ، وفرقة «مِت » بكسرها ، وقوله { كل نفس } عموم يراد به الخصوص ، والمراد كل نفس مخلوقة ، و «الذوق » ها هنا مستعار ، { ونبلوكم } معناه نختبركم وقدم الشر لأن الابتداء به أكثر ولأن العرب من عادتها أن تقدم الأقل والأردى فمنه قوله تعالى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة }{[8219]} [ الكهف : 49 ] ومنه قوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات }{[8220]} [ فاطر : 32 ] فبدأ في تقسيم أُمة محمد بالظلم وقال الطبري عن ابن عباس أنه جعل { الخير } و «الشر » هنا عاماً في الغنى والفقر والصحة والمرض والطاعة والمعصية والهدى والضلالة .
قال القاضي أبو محمد : إن المراد من { الخير } و «الشر » هنا ما يصح أن يكون فتنة وابتلاء وذلك خير المال وشره وخير الدنيا في الحياة وشرها ، وأما الهدى والضلال فغير داخل في هذا ولا الطاعة ولا المعصية لأن من هدى فليس نفس هداه اختبار بل قد تبين خبره ، فعلى هذا ففي الخير والشر ما ليس فيه اختبار ، كما يوجد أيضاً اختبار بالأوامر والنواهي ، وليس بداخل في هذه الآية . و { فتنة } معناه امتحاناً وكشفاً{[8221]} .
عُنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم { أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون } [ الأنبياء : 3 ] ، وقولهم : { أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يُدبرونه قال تعالى : { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } في سورة الطور ( 30 ) ، وقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك في } [ الأنفال : 30 ] .
وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريبَ المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم ، أو كأنهم لا يموتون أبداً فلا يشمت بهم أحد ، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون .
وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام .
ففي قوله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } طريقةُ القول بالموجَب ، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم ، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجَب ، أي ما هم بخالدين حتى يُوقنوا أنهم يرون موتك . وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذارٌ لهم بأنهم لا يرى موتَه منهم أحد .