اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ} (34)

قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد }{[28368]} الآية . لما استدل بالأشياء المذكورة ، وهي من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما يدل على أن هذه الدنيا أمرها كذلك لا يبقى ولا يدوم ، وإنما خلقها سبحانه وتعالى للابتلاء والامتحان ، وليتوصل بها إلى دار الخلود فقال : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } .

قال مقاتل : إن ناساً كانوا يقولون : إن محمداً لا يكون فنزلت هذه الآية{[28369]} .

وقيل : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون به في قولهم : نتربص بمحمد ريب المنون{[28370]} ، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية فقال : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } قضى الله تعالى{[28371]} أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت ولا هم ، وفي هذا المعنى قول القائل :

3713- فَقُلْ للشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا*** سيلقى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا{[28372]}

وقيل : يحتمل أنه لما أظهر أنه عليه السلام{[28373]} خاتم الأنبياء ، وجاز أن يقدم مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه ، فنبه الله تعالى على أنه حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام{[28374]} في الموت{[28375]} .

قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ } تقدم نظيره في آل عمران عند قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ }{[28376]} وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه ، وهو أنه إذا اجتمع شرط واستفهام{[28377]} أجيب الشرط ، فتكون الآية قد دخلت فيها همزة الاستفهام على جملة الشرط والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط ، وليست مصبًّا للاستفهام ، وزعم يونس أن الاستفهام منصب على الجملة المقترنة بالفاء ، وأن الشرط معترض بين الاستفهام وبينها ، وجوابه محذوف{[28378]} . وليس بشيء إذ لو كان كما قال لكان التركيب : أفإن مت هم الخالدون بغير فاء{[28379]} . وكان ابن عطية ينحى منحى يونس فإنه قال : وألف استفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط{[28380]} .


[28368]:انظر الفخر الرازي 22/169 بتصرف.
[28369]:انظر الفخر الرازي 22/169.
[28370]:حيث قال الله تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30].
[28371]:تعالى: سقط من ب.
[28372]:البيت من بحر الوافر قاله ذو الإصبع العدواني، وقيل: فروة بن مسيك المرادي وقيل: الفرزدق. والبيت في الكشاف 3/11، والفخر الرازي 22/169، والبحر المحيط 6/310 وشرح شواهد الكشاف 131. الشامت: المستشفى من غيظه بما أصاب عدوه. أي فقل للشامتين لما نزل بنا من الهزيمة أفيقوا من سكرتكم فإنكم ستلقون من الهزيمة مثل ما لقينا.
[28373]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28374]:في ب: عليهم الصلاة والسلام.
[28375]:انظر الفخر الرازي 22/169.
[28376]:[آل عمران: 144].
[28377]:في النسختين: وقسم. والصواب ما أثبته.
[28378]:أي: أن الشرط إذا دخل عليه همزة الاستفهام فمذهب سيبويه أن همزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط والجواب لكونهما كجملة واحدة. وزعم يونس أن جملة الجزاء هي مصب الاستفهام، وجملة الشرط معترضة بين همزة الاستفهام وجملة الجزاء، وجوابها محذوف. والحق مذهب سيبويه لأن الأولى أن يجعل الجواب للشرط ويجعل الاستفهام داخلا على الشرط والجزاء معا كدخول الموصول عليهما معا في نحو جاءني الذي إن تأته يشكرك والآية دليل لمذهبه فالفاء في "فهم" لجواب الشرط، وفي "فإن" للسببية ولو كان التقدير: أفهم الخالدون لم يقل: فإن مت بل كان يقول أئن مت فهم الخالدون أي: أفهم الخالدون إن مت. والأصل عدم الحكم بزيادة الفاء. انظر الكتاب 3/82-83 ، وشرح الكافية 2/394-395. والتبيان 1/296، والبحر المحيط 6/310-311.
[28379]:انظر البيان 2/161، البحر المحيط 6/311.
[28380]:تفسير ابن عطية 10/146، وفيه: (وقدمت في أول الجملة، لأن الاستفهام له صدر الكلام، والتقدير: أفهم الخالدون إن مت؟ والفاء في قوله تعالى "أفإن" عاطفة جملة على جملة).