( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . .
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم ، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية ، والجهاد الحقيقي ، والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى ، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين ، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة ، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ؛ وبكل شهواتها ونزواتها ؛ وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ، ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ، الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب " الإنسان " الذي استخلفه في هذا الملك العريض !
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ، بشتى الأسباب والوسائل ، وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ، فتستبشر ، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر ، وتصبر على نشوته ، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء ، وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله ، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية ، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل ، بما عندها من الحق المجرد ؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ، ومداخل شهواتها ، ومزالق أقدامها ؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
وقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي : قد كنتم - أيها المؤمنون - قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونَكم فقاتلوا وصابروا .
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَمَنَّوْا{[5775]} لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ " {[5776]} .
ولهذا قال : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : الموت شاهدتموه{[5777]} في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح ، وصفوف الرجال للقتال .
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس{[5778]} كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب .
{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ } : ولقد كنتم يا معشر أصحاب محمد تمنون الموت يعني أسباب الموت وذلك القتال¹ { فقدْ رَأيتموه } فقد رأيتم ما كنتم تمنونه . والهاء في قوله «رأيتموه » ، عائدة على الموت ، ومعنى : { وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } يعني : قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر : أي بقرب منكم . وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل : { وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } على وجه التوكيد للكلام ، كما يقال : رأيته عيانا ، ورأيته بعيني ، وسمعته بأذني¹ وإنما قيل : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرا ، كانوا يتمنون قبل أُحد يوما مثل يوم بدر ، فيِبلوا الله من أنفسهم خيرا ، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر¹ فلما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك ، فعاتب الله من فرّ منهم ، فقال : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } . . . الاَية ، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم . ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : غاب رجال عن بدر ، فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه ، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر . فلما كان يوم أُحد ولى من ولى ، فعاتبهم الله أو فعابهم ، أو فعتبهم على ذلك ، شك أبو عاصم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه ، إلا أنه قال : فعاتبهم الله على ذلك ، ولم يشكّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنُتمْ تَنْظُرُونَ } : أناس من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر ، فكانوا يتمنون أن يرزقوا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أُحد ، فقال الله عزّ وجلّ كما تسمعون : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ } حتى بلغ : { الشّاكِرِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } قال : كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم ، فلما لقوهم يوم أُحد ولّوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : إن أناسا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال ، حتى كان بناحية المدينة يوم أُحد ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } . . . الاَية .
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ ! فابتلوا بذلك ، فلا والله ما كلهم صدق ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشهدوا بدرا ، فلما رأوا فضيلة أهل بدر ، قالوا : اللهمّ إنا نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر ، نبليك فيه خيرا ! فرأوا أُحدا ، فقال لهم : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقدْ رأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رأيتُمُوهُ وأنتُمْ تَنْظُرُونَ } : أي لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحقّ قبل أن تلقوا عدوكم ، يعني الذين حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوّهم لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر ، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به يقول : { فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } : أي الموت بالسيوف في أيدي الرجال ، قد حلّ بينكم وبينهم ، وأنتم تنظرون إليهم ، فصددتم عنهم .
{ ولقد كنتم تمنون الموت } أي الحرب فإنها من أسباب الموت ، أو الموت بالشهادة . والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج . { من قبل أن تلقوه } من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته . { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم ، وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها ، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار .
ثم خاطب المؤمنين بقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت } والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادراً فلم يوعب{[3571]} الناس معه ، إذ كان الظن أنه لا يلقى حرباً ، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة ، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر ، ولأنس بن النضر{[3572]} في ذلك كلام محفوظ ، فلما جاء أمر أحد -وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين ، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به ، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت ، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت ، فصار الموت كأنه المتمنى ، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم ، وقرأ الجمهور : «من قبل أن تلقوه » ، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه » وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث - لقي - معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل ، وقرأ مجاهد «من قبلُ » بضم اللام وترك الإضافة ، وجعل { أن تلقوه } بدلاً من { الموت } ، وقوله تعالى : { فقد رأيتموه } يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف ، وهذا كما قال عمير بن وهب{[3573]} يوم بدر : رأيت البلايا ، تحمل المنايا ، وكما قال الحارث بن هشام : [ الكامل ]
وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ . . . في مَأْزقِ وَالْخَيْلُ لَمْ تتبددِ{[3574]}
يريد لقرب الأمر ، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة{[3575]} :
لقد رأيت الموت قبل ذوقه . . . يريد لما اشتد به المرض ، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه » ، وقوله تعالى : { وأنتم تنظرون } يحتمل ثلاثة معان : أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ ، والآخر أن يكون المعنى أنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا ؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه ، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا : المعنى : وأنتم تنظرون إلى محمد ، وهذا قول ضعيف ، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل ؟ والاضطراب بحسب ذلك ، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم ، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا ، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب : { وأنتم تنظرون } في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم ؟ كأنه قال : وأنتم حسباء أنفسكم ، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميع من الإبقاء والصون والاستدعاء ، قال ابن فورك : المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي ؟ وهذا نحو ما تقدم .
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعاً بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية .
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الَّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : { كنتم تمنّون الموت } أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظراً لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه .
وقوله : { من قبل أن تلقوه } تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .
وقوله : { فقد رأيتموه } أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : { فقد رأيتموه } تمثيلاً ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :
وشممتُ ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت .
والفاء في قوله : { فقد رأيتموه } فاء الفصيحة عن قوله : { كنتم تمنون } والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا
ومنه قوله تعالى : { فقد كذّبوكم بما تقولون } [ الفرقان : 19 ] وقوله في سورة الروم ( 56 ) : { فهذا يوم البعث } .
وجملة { وأنتم تنظرون } حال مؤكّدة لمعنى { رأيتُموه } ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغَناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون . ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه . ومحلّ المعذرة في قوله : { من قبل أن تلقوه } وقوله : { فقد رأيتموه } ومحلّ الملام في قوله : { وأنتم تنظرون } .
ويحتمل أن يكون قوله : { تمنون الموت } بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ) .
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقْتل " وقال عمر : « اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك » وقال ابن رواحة :
لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفــرة *** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا
حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي *** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا
وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت .