ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية ، لمسة موحية ، تطرد ذلك الخوف ، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة ، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ، ومن ابتلاء للعباد وجزاء :
( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ؛ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها . وسنجزي الشاكرين ) . .
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع ، والحرص والتخلف ، لا تطيل أجلا . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا . فلا كان الجبن ، ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد !
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس ، فتترك الاشتغال به ، ولا تجعله في الحساب ، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص ، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته ، في صبر وطمأنينة ، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوبا ، والأجل مرسوما . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ؛ ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان ، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض ، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى ، وإلى اهتمامات أرفع ، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ؟ . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ؟ !
( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) .
وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ، ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة " الإنسان " الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) . .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان ، فيرتفعون عن مدارج الحيوان ؛ ويشكرون الله على تلك النعمة ، فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء ، وفق ما يريدونه لأنفسهم ، من اهتمام قريب كاهتمام الدود ، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان ! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة - إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس ، في الحقل الذي تملكه ، وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار !
وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } أي : لا يموت أحد إلا بقدر الله ، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله له ؛ ولهذا قال : { كِتَابًا مُؤَجَّلا } كقوله{[5794]} { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } [ فاطر : 11 ] وكقوله { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } [ الأنعام : 2 ] .
وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال : سمعت أبا معاوية ، عن الأعمش ، عن حبيب بن صُهبان ، قال : قال رجل من المسلمين{[5795]} - وهو حُجْرُ بن عَدِيّ - : ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو ، هذه{[5796]} النطفة ؟ - يعني دِجْلَة - { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا : ديوان ، فهربوا{[5797]} {[5798]} .
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له ، ولم يكن له في الآخرة [ من ]{[5799]} نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 18 ، 19 ] وهكذا قال هاهنا : { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } أي : سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكْرهم وعملهم .
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بالموت فحينئذ يموت ، فأما قبل ذلك فلن تموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ كِتابا مُؤَجّلاً } : أي أن لمحمد أجلاً هو بالغه إذا أذن الله له في ذلك كان .
وقد قيل : إن معنى ذلك : وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .
وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله : { كِتابا مُؤجّلاً }¹ فقال بعض نحويي البصرة : هو توكيد ، ونصبه على : كتب الله كتابا مؤجلاً ، قال : وكذلك كل شيء في القرآن من قوله «حقّا » ، إنما هو : أحقّ ذلك حقّا ، وكذلك : { وَعْدَ اللّهِ } و{ رحْمَةً مِنْ رَبّكَ } وَ{ صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كلّ شيءٍ } و{ كِتَابَ اللّهِ عَلَيكُمْ } إنما هو : صنع الله هكذا صنعا ، فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا ، فإنه كثير .
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ } معناه : كتب الله آجال النفوس ، ثم قيل : كتابا مؤجلاً ، فأخرج قوله : كتابا مؤجلاً ، نصبا من المعنى الذي في الكلام ، إذ كان قوله : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ باذْنِ اللّهِ } قد أدّى عن معنى «كتب » ، قال : وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، فهو على هذا النحو .
وقال آخرون منهم : قول القائل : زيد قائم حقا ، بمعنى : أقول زيد قائم حقا ، لأن كل كلام قول ، فأدّى المقول عن القول ، ثم خرج ما بعده منه ، كما تقول : أقول قولاً حقّا ، وكذلك ظنّا ويقينا ، وكذلك وَعْدَ الله ، وما أشبهه .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله ، لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظها ألفاظ ما قبلها من الكلام معاني ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : من يرد منكم أيها المؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا دون ما عند الله من الكرامة ، لمن ابتغى بعمله ما عنده { نُؤْتِهِ مِنْها } يقول : نعطه منها ، يعني : من الدنيا ، يعني : أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته ، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدّها لمن أطاعه ، وطلب ما عنده في الاَخرة . { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ } يقول : ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الاَخرة ، يعني ما عند الله من كرامته التي أعدّها للعاملين له في الاَخرة ، { نُؤْتِهِ مِنْهَا } يقول : نعطه منها ، يعني من الاَخرة¹ والمعنى : من كرامة الله التي خصّ بها أهل طاعته في الاَخرة . فخرج الكلام على الدنيا والاَخرة ، والمعنى ما فيهما . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ومَنْ يُرِدْ ثَواب الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها وَمْن يُرِدْ ثَوابَ الاَخِرِةِ نُؤْتِهِ مِنْها } : أي فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الاَخرة ، نؤته ما قسم له منها من رزق ، ولا حظّ له في الاَخرة ، ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها ما وعده مع ما يُجْرَى عليه من رزقه في دنياه .
وأما قوله : { وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين } يقول : وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي وانتهائه إلى أمري وتجنبه محارمي في الاَخرة ، مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي . وقال ابن إسحاق في ذلك بما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين } أي ذلك جزاء الشاكرين ، يعنى بذلك : إعطاء الله إياه ما وعده في الاَخرة مع ما يجرى عليه من الرزق في الدنيا .
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } إلا بمشيئة الله تعالى أو بإذنه لملك الموت عليه الصلاة والسلام في قبض روحه ، والمعنى أن لكل نفس أجلا مسمى في علمه تعالى وقضائه { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } بالإحجام عن القتال والإقدام عليه . وفيه تحريض وتشجيع على القتال ، ووعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالحفظ وتأخير الأجل . { كتابا } مصدر مؤكد إذ المعنى كتب الموت كتابا . { مؤجلا } صفة له أي مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر . { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد فإن المسلمين حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون ، فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلوا مكانهم فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم . { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } أي من ثوابها . { وسنجزي الشاكرين } الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد .
ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى ، أي فالجبن لا يزيد فيه ، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه ، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد ، قال ابن فورك : وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام ، العبارة بقوله : { وما كان } قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ، وقد تقع في الممتنع عقلاً نحو قوله { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }{[3582]} فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهياً كما يقول بعض المفسرين ، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه ، و «نفس » في هذه الآية : اسم الجنس ، و «الإذن » التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه ، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر ، وقوله : { كتاباً } نصب على التمييز و { مؤجلا } صفة . وهذه الآية ردّ على المعتزلة{[3583]} في قولهم بالأجلين ، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى : { ويؤخركم إلى أجل مسمى }{[3584]} ونحو هذا من الآيات ، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }
قوله تعالى : { نؤته منها } مشروط بالمشيئة ، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له ، بيّن ذلك قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد }{[3585]} ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئاً من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا ، فلا نصيب له في الآخرة ، والأعمال بالنيات ، وقرينة الكلام في قوله : { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } لا تمنع أن يؤتى نصيباً من الدنيا ، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي » . كلها بنون العظمة ، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة ، وذلك على على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه ، قال ابن فورك : في قول الله تعالى : { وسنجزي الشاكرين } إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة .
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا }
جملة معترضة ، والواو اعتراضية .
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول ، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام ، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه ، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة . وفي قوله : { والله يعصمك عن الناس } [ المائدة : 67 ] عقب قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّلايعة . فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه ، ويتمّ مراده ، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه ، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه ، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية . بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب ، وقال : ما كمُل شيء إلاّ نقص . فالجملة ، على هذا ، في موضع الحال ، والواو واو الحال .
وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت ، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً .
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل ، فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة ، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلاّ في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد { بإذن الله } تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ( كن ) ، ومرة بقدر مقدُور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب .
والكتاب في قوله : { كتاباً مؤجلاً } يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالاً من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و« مؤجّلاً » حالاً ثانية ، ويجوز أن يكون { كتاباً } مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : { مؤجلاً } صفة له ، وهو بدل من فِعله المحذوف ، والتَّقدير : كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً . وجعله صاحب « الكشاف » مصدراً مؤكّداً أي لِمضمون جملة { وما كان لنفس } الآية ، وهو يريد أنَّه مع صفته وهي { مؤجّلاً } يؤكِّد معنى { إلاّ بإذن الله } لأنّ قوله : { بإذن الله } يفيد أنّ له وقتاً قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً فهو كقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] بعد قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] الآية .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } .
أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقال تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } أي الغنيمة أو الشَّهادة ، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير . وجملة { وسنجزي الشاكرين } تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة . ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط .