ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين ، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود . ويقولون لهم : ( لا مقام لكم فارجعوا ) . . ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة . وهي - على صدقها - تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس . صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع . في ساعة الشدة . والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء . والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه . والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد . . والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز :
( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم : هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم . فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد . أشحة على الخير . أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا . يحسبون الأحزاب لم يذهبوا . وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم . ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) . .
ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة . الذين يدعون إخوانهم إلى القعود ( ولا يأتون البأس إلا قليلا )ولا يشهدون الجهاد إلا لماما . فهم مكشوفون لعلم الله ، ومكرهم مكشوف .
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب ، والقائلين لإخوانهم ، أي : أصحابهم{[23253]} وعُشَرائهمِ وخلطائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي : إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار ، وهم مع ذلك { لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } .
يقول تعالى ذكره : قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس منكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصدّونهم عنه ، وعن شهود الحرب معه ، نفاقا منهم ، وتخذيلاً عن الإسلام وأهله والقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمّ إلَيْنا : أي تعالوا إلينا ، ودعوا محمدا ، فلا تشهدوا معه مشهده ، فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه . وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِيلاً يقول : ولا يشهدون الحرب والقتال إن شهدوا إلاّ تعذيرا ، ودفعا عن أنفسهم المؤمنين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِينَ مِنْكُمْ والقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم : ما محمد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنه هالك .
وقوله : وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِيلاً : أي لا يشهدون القتال ، يغيبون عنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثنا يزيد بن رومان قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِينَ مِنْكُمْ : أي أهل النفاق وَالقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمّ إلَيْنا ، وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِيلاً : أي إلاّ دفعا وتعذيرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِينَ مِنْكُمْ ، والقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذا يوم الأحزاب ، انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف ونبيذ ، فقال له : أنت ههنا في الشواء والرغيف والنبيذ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلمّ إلى هذا ، فقد بلغ بك وبصاحبك ، والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به قال ، وكان أخاه من أبيه وأمّه : أما والله لأخبرنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرك قال : وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره قال : فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بخبره قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِين مِنْكُمْ والقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمّ إلَيْنا ، وَلا يَأْتُون البأْسَ قَلِيلاً .
{ قد يعلم الله المعوقين منكم } المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون . { والقائلين لإخوانهم } من ساكني المدينة . { هلم إلينا } قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في " الأنعام " { ولا يأتون البأس إلا قليلا } إلا إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا ، فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم ، أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلا كقوله { ما قاتلوا إلا قليلا } وقيل أنه من تتم كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاوموهم إلا قليلا .
ثم وبخهم بأن الله يعلم { المعوقين } وهم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ، ويسعون على الدين ، وتقول عاقني أمر كذا وعوّقني إذا بالغت وضعفت الفعل ، وأما «القائلون » فاختلف الناس في حالهم ، فقال ابن زيد وغيره أراد من كان من المنافقين ، يقول لإخوانه في النسب وقرابته { هلم إلينا } أي إلى المنازل والأكل والشرب وترك القتال ، وروي أن جماعة منهم فعلت ذلك ، وروي أن رجلاً من المؤمنين رجع إلى داره فوجد أخاً له منافقاً بين يديه رغيف وشواء وتين ، فقال له : تجلس هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال ، فقال له أخوه : هلم إلى ما أنا فيه يا فلان ودعنا من محمد فقد والله هلك وما له قبل بأعدائه ، فشتمه أخوه وقال : والله لأعرفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد نزلت{[9475]} .
وقالت فرقة بل أراد من كان من المنافقين يداخل كفار قريش من العرب فإنه كان منهم من داخلهم وقال لهم { هلم إلينا } أي إلى المدينة فإنكم تغلبون محمداً وتستأصلونه ، فالإخوان على هذا هم في الكفر والمذهب السوء ، و { هلم } معناه : الدعاء إلى الشيء ، ومن العرب من يستعملها على حد واحد للمذكر المؤنث والمفرد والجميع ، وهذا على أنها اسم فعل ، هذه لغة أهل الحجاز ، ومنه من يجريها مجرى الأفعال فيلحقها الضمائر المختلفة فيقول هلم وهلمي وهلموا ، وأصل { هلم } هاْلُمْم نقلت حركة الميم إلى اللام فاستغني عن الألف وأدغمت الميم في الميم لسكونها فجاء { هلم } ، وهذا مثل تعليل رد من أردد{[9476]} ، و { البأس } القتال ، و { إلا قليلاً } معناه إلا إتياناً قليلاً ، وقلته يحتمل أن يكون لقصر مدته وقلة أزمنته ، ويحتمل أن يكون لخساسته وقلة غنائه وأنه رياء وتلميع لا تحقيق .