فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة ، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان ، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان . فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر ، وليسوا أول من يمكر . والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم ، ومصيرهم يوم القيامة ، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم . يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة :
( قد مكر الذين من قبلهم . فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ، الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء . بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فلبئس مثوى المتكبرين )
( قد مكر الذين من قبلهم ) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته . ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الاحتماء فيه . إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم ، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم . وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته !
إنه مشهد كامل للدمار والهلاك ، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين ، الذين يقفون لدعوة الله ، ويحسبون مكرهم لا يرد ، وتدبيرهم لا يخيب ، والله من ورائهم محيط !
وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها . ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون ، ومهما يدبر المدبرون .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله من أراد اتباع دين الله ، فراموا مغالبة الله ببناءٍ بَنَوه ، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها . وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النّبَط فقال بعضهم : هو نمرو بن كنعان ، وقال بعضهم : هو بختنصر ، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم . وقيل : إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر الذين حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخُرِجَ ، يعني من مدينته ، قال : فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به ، وقال : إني مهاجر إلى ربي . وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور ، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعجلن ، فربطهنّ في تابوت ، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رِجلاً من لحم ، فطرن ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل . ثم رفع لهنّ اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء . ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع ، فألقى اللحم ، فاتّبعته منقضّات . فلما نظرت الجبال إليهنّ ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ ، فزعت الجبال ، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » . فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان . فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح ، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ، يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وأتاهُمْ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول : من مأمنهم ، وأخذهم من أساس الصرح ، فتنقّض بهم فسقط . فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل . وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأتَى اللّهُ بُنيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : هو نمرود حين بنى الصرح .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قال : عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسُه بالمطارق ، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما ، وكان جبارا أربع مئة سنة ، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : فَأَتى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ .
وأما قوله : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فإن معناه : هدم الله بنيانهم من أصله . والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس . وكان بعضهم يقول : هذا مثل للاستئصال وإنما معناه : إن الله استأصلهم . وقال : العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء .
وقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فخرّ عليهم السقف من فوقهم أعالي بيوتهم من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ والسقف : أعالي البيوت ، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم ، وأتاهُمُ العَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ قال : أتى الله بنيانهم من أصوله ، فخرّ عليهم السقف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : عنى بقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أن العذاب أتاهم من السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يقول : عذاب من السماء لَما رأوه استسلموا وذلوا .
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : معنى ذلك : تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله ، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل . وأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول تعالى ذكره : وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش ، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه .
{ قد مكر الذين من قبلهم } أي سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام . { فأتى الله بنيانهم من القواعد } فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت . { فخرّ عليهم السقف من فوقهم } وصار سبب هلاكهم . { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل . وقيل المراد به نمرود بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا .