بعد ذلك يقف السياق القرآني المشركين بالله ، أمام بأس الله ، في ذوات أنفسهم ، في أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، وهم عاجزون عن رده ، وهم لا يجدون كذلك إلها غير الله ، يرد عليهم أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم إن أخذها الله منهم :
( قل : أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم ، من إله غير الله يأتيكم به ؟ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ! ) . .
وهو مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب ، كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله في موقف الجد من جانب . . ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق . . إن خالق الفطرة البشرية يعلم أنها تدرك ما في هذا المشهد التصويري من جد ، وما وراءه من حق . . أنها تدرك أن الله قادر على أن يفعل بها هذا . قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار ، وأن يختم على القلوب ، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها . وأنه - إن فعل ذلك - فليس هناك من إله غيره يرد بأسه . .
وفي ظلال هذا المشهد ، الذي يبعث بالرجفة في القلوب والأوصال ، ويقرر في الوقت ذاته تفاهة عقيدة الشرك ، وضلال اتخاذ الأولياء من دون الله . . في ظلال هذا المشهد يعجب من أمر هؤلاء الذين يصرف لهم الآيات ، وينوعها ، ثم هم يميلون عنها كالبعير الذي يصدف أي يميل بخفة إلى الجانب الوحشي الخارجي من مرض يصيبه !
( انظر كيف نصرف الآيات ، ثم هم يصدفون ! ) . .
وهو تعجيب مصحوب بمشهد الصدوف ! المعروف عند العرب ، والذي يذكرهم بمشهد البعير المؤوف ! فيثير في النفس السخرية والاستخفاف والعزوف !
يقول الله تعالى لرسوله [ محمد ]{[10688]} صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المكذبين المعاندين : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } أي : سلبكم إياها كما أعطاكموها فإنه { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ [ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ] {[10689]} } [ الملك : 33 ] .
ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ؛ ولهذا قال : { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } كما قال : { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ } [ يونس : 31 ] ، وقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] .
وقوله : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي : هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم ؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه ؛ ولهذا قال [ عز شأنه ]{[10690]} { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي : ثم هم مع هذا البيان يعرضون عن الحق ، ويصدون الناس عن اتباعه .
قال العوفي ، عن ابن عباس { يَصْدِفُونَ } أي يعدلون . وقال مجاهد ، وقتادة : يعرضون : وقال السُّدِّي : يصدون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ مّنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ ثُمّ هُمْ يَصْدِفُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأصنام المكذّبين بك : أرأيتم أيها المشركون بالله غيره إن أصمكم الله فذهب بأسماعكم وأعمالكم فذهب بأبصاركم ، وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فطبع عليها حتى لا تفقهوا قولاً ولا تبصروا حجة ولا تفهموا مفهوما ، أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد يأتيكم به يقول : يردّ عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم وعلى ردّه عليكم إذا شاء .
وهذا من الله تعالى تعليم نبيه الحجة على المشركين به ، يقول له : قل لهم : إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا ، وإنما يستحقّ العبادة عليكم من كان بيده الضرّ والنفع والقبض والبسط ، القادر على كل ما أراد لا العاجز الذي لا يقدر على شيء . ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الاَياتِ يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ليعتبروا ويذكروا فينيبوا . ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ يقول : ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج وتنبيهنا إياهم بالعبر عن الادّكار والاعتبار يعرضون ، يقال منه : صدف فلان عني بوجهه فهو يَصْدِفُ صُدوفا وصَدفا : أي عدل وأعرض ، ومنه قول ابن الرقاع :
إذا ذَكَرْنَ حدِيثا قُلْنَ أحْسَنَه ***وهُنّ عنْ كُلّ سُوءٍ يُتّقَى صُدُفُ
يُرْوِي قَوامِحَ قبلَ اللّيْلِ صَادِفَةً ***أشباهَ جِنَ عَلَيْها الرّيْط والأُزُرُ
فإن قال قائل : وكيف قيل : مَنْ إلَهٌ غيرُ اللّهِ يَإِتِيكُمْ بِهِ فوحد الهاء ، وقد مضى الذكر قبل بالجمع فقال : أرأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ وَختَمَ على قُلُوبِكُمْ ؟ قيل : جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع ، فتكون موحدة لتوحيد السمع ، وجائز أن تكون معنيا بها : من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة ، فتكون موحدة لتوحيد «ما » ، والعرب تفعل ذلك إذا كنت عن الأفعال وحدت الكناية وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل ، كقوله : إقبالك وإدبارك يعجبني . وقد قيل : إن الهاء التي في به كناية عن الهدى .
وينحو ما قلنا في تأويل قوله يَصْدِفُونَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَصْدِفُونَ قال : يعرضون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَصْدِفُونَ قال : يعدلون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قأخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : نُصَرّف الاَياتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ قال : يعرضون عنها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، السديّ : ثُمّ هُمْ يَصْدِفُونَ قال : يصدّون .
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أصمكم وأعماكم . { وختم على قلوبكم } بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم . { من إله غير الله يأتيكم به } أي بذلك ، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات . { انظر كيف نصرف الآيات } نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين . { ثم هم يصدقون } يعرضون عنها ، وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها .