البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ هُمۡ يَصۡدِفُونَ} (46)

صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً ، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع :

إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه *** وهنَّ عن كل سوء يتقى صدف

صدف جمع صدوف ، كصبور وصبر .

وقيل : صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير ، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر .

قال الشاعر :

وزادها عجباً أن رحت في سمك *** وما درت دورانَ الدرِّ في الصَّدف

{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } لما ذكر أولاً تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد ، فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل أرأيتكم ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به ، بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل { أرأيتم } وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب ، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئاً والظاهر من قوله { أخذ سمعكم وأبصاركم } أنه ذهاب الحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذاً حقيقياً .

وقيل : هو أخذ معنوي والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى ، وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم ، وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أول البقرة فأغنى عن إعادته .

ومفعول { أرأيتم } الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول : أرأيتك زيداً ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه ، والضمير في { به } أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل تأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه .

وقيل : يعود على السمع بالتصريح وتدخل فيه القلوب والأبصار .

وقيل : هو عائد على الهدى الذي يدل عليه المعنى لأن أخذ السمع والبصر والختم على القلوب سبب الضلال وسد لطرق الهداية ، و { من إله } استفهام معناه توقيفهم على أنه ليس ثم سواه فالتعلق بغيره لا ينفع .

قال الحوفي : وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال { أرأيتم } كقوله : اضربه إن خرج أي خارجاً ، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام ؛ انتهى ، وهذا الإعراب تخليط .

انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون } روى أبو قرة المسيبي عن نافع به { انظر } بضم الراء وهي قراءة الأعرج ، وانظر خطاب للسامع وتصريف الآيات قال مقاتل : نخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم السالفة .

وقال ابن فورك : تصريفها مرة تأتي بالنقمة ومرة تأتي بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب .

وقيل : تتابع لهم الحجج وتضرب لهم الأمثال .

وقيل : نوجهها إلى الإنشاء والإفناء والإهلاك .

وقيل : الآيات على صحة توحيده وصدق نبيه والصدف والصدوف الإعراض والنفور .

قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي : { يصدفون } يعرضون ولا يعتبرون .

وقرأ بعض القراء كيف نصرف من صرف ثلاثياً .