تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة يا محمد: {أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم}، فلم تسمعوا شيئا، {وختم}: وطبع {على قلوبكم}، فلم تعقلوا شيئا، {من إله غير الله يأتيكم به}: هل أحد يرده إليكم دون الله، {انظر} يا محمد {كيف نصرف الآيات}: العلامات في أمور شتى فيما ذكر من تخويفهم من أخذ السمع والأبصار والقلوب، وما صنع بالأمم الخالية، {ثم هم يصدفون}: يعرضون، فلا يعتبرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأصنام المكذّبين بك: أرأيتم أيها المشركون بالله غيره إن أصمكم الله فذهب بأسماعكم وأعماكم فذهب بأبصاركم، "وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ "فطبع عليها حتى لا تفقهوا قولاً ولا تبصروا حجة ولا تفهموا مفهوما، أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد "يأتيكم به" يقول: يردّ عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم وعلى ردّه عليكم إذا شاء.
وهذا من الله تعالى تعليم نبيه الحجة على المشركين به، يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا، وإنما يستحقّ العبادة عليكم من كان بيده الضرّ والنفع والقبض والبسط، القادر على كل ما أراد لا العاجز الذي لا يقدر على شيء. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الآياتِ": انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ليعتبروا ويذكروا فينيبوا. "ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ": ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج وتنبيهنا إياهم بالعبر عن الادّكار والاعتبار يعرضون...
فإن قال قائل: وكيف قيل: "مَنْ إلَهٌ غيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِهِ" فوحد الهاء، وقد مضى الذكر قبل بالجمع فقال: "أرأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ وَختَمَ على قُلُوبِكُمْ"؟ قيل: جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع، فتكون موحدة لتوحيد السمع، وجائز أن تكون معنيا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة، فتكون موحدة لتوحيد «ما»، والعرب تفعل ذلك إذا كنت عن الأفعال وحدت الكناية وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل، كقوله: إقبالك وإدبارك يعجبني. وقد قيل: إن الهاء التي في به كناية عن الهدى.
عن مجاهد، في قوله: "يَصْدِفُونَ" قال: يعرضون.
عن ابن عباس، قوله: "يَصْدِفُونَ" قال: يعدلون.
[عن] السديّ: "يَصْدِفُونَ" قال: يصدّون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: يراد بأخذ السمع والبصر والختم على القلوب أخذ منافع هذه الأشياء: أي أخذ منافع سمعكم ومنافع بصركم ومنافع عقولكم. {من إله غير الله يأتيكم به} بمنافع سمعكم ومنافع بصركم ومنافع عقولكم؟ فإذا كانت الأصنام والأوثان التي تعبدون من دون الله، وتشركون / 148-ب/ في ألوهيته وربوبيته، لا يملكون رد تلك المنافع التي أخذ الله عنكم، فكيف تعبدونها، وتشركون في ألوهيته؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون "تنبيه للعباد على هذه الآية وعلى أمثالها من الآيات التي بين فيها انه لا يستحق العبادة سواه تعالى. ثم بين أنهم مع ظهور هذه الآيات يصدفون أي يعرضون عن تأملها، والتفكر فيها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَرَّفهم محلَّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم.
وحذَّرهم فقال: إنْ لم يُدِمْ عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجِبْ لهم ما ألبسهم من العوافي -بكل وجهٍ في كل لحظة- فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يَرُدُّ ما أبداه؟ كلا... بل هو الله تعالى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا ابتداء احتجاج على الكفار، و {أخذ الله} معناه أذهبه وانتزعه بقدرته، ووحد السمع لأنه مصدر مفرد يدل على جمع، والضمير في {به} عائد على المأخوذ، وقيل على السمع، وقيل على الهدى الذي تضمنه المعنى...
... قال النقاش: في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمه هنا، ثم احتج لذلك بقوله: {إنما يستجيب الذين يسمعون} [الأنعام: 36] وبغير ذلك، والاستفهام في قوله: {من إله} معناه التوقيف، أي ليس ثمة إله سواه، فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وهي لا تدفع ضرراً ولا تأتي بخير، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه.\
...في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار، وتقريره أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب فالأذن محل القوة السامعة والعين محل القوة الباصرة، والقلب محل الحياة والعقل والعلم. فلو زالت هذه الصفات عن هذه الأعضاء اختل أمر الإنسان وبطلت مصالحه في الدنيا وفي الدين. ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها وصونها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله. وإذا كان الأمر كذلك، كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله سبحانه وتعالى، فوجب أن يقال المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى. وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة. المسألة الثانية: ذكروا في قوله {وختم على قلوبكم} وجوها: الأول: قال ابن عباس: معناه وطبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى. الثاني: معناه وأزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين. والثالث: المراد بهذا الختم الإماتة أي يميت قلوبكم. المسألة الثالثة: قوله {من إله غير الله} {من} رفع بالابتداء وخبره {إله} و {غير} صفة له وقوله {يأتيكم به} هذه الهاء تعود على معنى الفعل. والتقدير: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم. قال الكعبي: دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم، ولم يخلق فيهم الإعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى. واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا: إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيحها وإزالة جهات الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تماديا في الكفر والغي والعناد، وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله، فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم، والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات، من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم التنبيه بإتيان مطلق العذاب في مطلق الأحوال، وكان الإتيان بالكاف ثَمَّ مشيراً مع إفادة التأكيد إلى أن ثَمَّ نوع مهلة، وأتبعه أن أخذ الأمم كان بغتة، أعقبه التنبيه بعذاب خاص تصورُ شناعته يهذأ الأركان ويقطع الكبود ويملأ الجنان، فإنه لا أشنع حالاً من أصم أعمى مجنون، فقال مشيراً -بإسقاط كاف الخطاب مع التعبير بالأخذ الذي عهد أنه للبغت بالسطوة والقهر- إلى غاية التحذير من سرعة أيّ الأخذ: {قل أرءيتم} فكانت حقيقة المقترن بالكاف: هل رأيتم أنفسكم، وهذا هل رأيتم مطلق رؤية، لما تقدمت الإشارة إليه من الإيماء إلى طلب الإسراع بالجواب خوف المفاجأة بالعذاب وإن كان المراد في الموضعين: أخبروني {إن أخذ الله} أي القادر على كل شيء العالم بكل شيء {سمعكم} وأفرده لقلة المفاوتة فيه، لأنه أعظم الطرق لإدراك القلب الذي لا أعظم من المفاوتة فيه حتى للإنسان الواحد بالنسبة إلى الأحوال المختلفة، ليكون ذلك أدل على الفعل بالاختيار {وأبصاركم} أي فأصمكم وأعماكم عمى وصمماً ظاهرين وباطنين بسلب المنفعة {وختم على قلوبكم} فجعلها لا تعي أصلاً أو لا ينتفع بالوعي {من إله} أي معبود بحق، لأن له إحاطة العلم والقدرة؛ ثم وصف هذا الخبر بقوله: {غير الله} أي الذي له جميع العظمة {يأتيكم به} أي بذلك الذي هو أشرف معاني أشرف أعضائكم، أو بشيء منه.
ولما بلغت هذه الآيات -من الإبلاغ في البيان في وحدانيته وبطلان كل معبود سواه- أعلى المقامات، نبه على أنه على ذلك، بالأمر بالنظر فيها وفي حالهم بعدها، دالاً على ما تقدم من أن المقترحات لا تنفع من أراد سبحانه شقاوته فقال: {انظر كيف نصرف} أي بما لنا من العظمة {الآيات} أي نوحيها لهم ولغيرهم في كل وجه من وجوه البيان بالغ من الإحسان ما يأخذ بالعقول ويدهش الألباب، ويكون كافياً في الإيصال إلى المطلوب؛ ولما كان الإعراض عن مثل هذا في غاية البعد، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم هم} أي بعد هذا البيان بصميم ضمائرهم {يصدفون} أي يعرضون إعراضاً لازماً لهم لزوم الصفة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والأخذ: انتزاع الشيء وتناوله من مقرّه، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام، لأنّ السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل. ولك أن تجعله تمثيلاً لأنّ الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه، فشبّهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئاً من مقرّه. فالهيئة المشبّه هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبّهة بها محسوسة. ولعلّ إفراد السمع وجمْع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفَّة أحد اللفظين مُفْرداً والآخر مجموعاً عند اقترانهما، وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى: {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء} [الأنعام: 26.] والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأنّ القلب سبب إمداد العقل بقوّة الإدراك والكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلْب الإدراك من قلوبهم لأنَّهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها، كما أشار إليه قوله آنفاً {وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها} [الأنعام: 25]. فكان ذلك تنبيهاً لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع، وناسب هنا أن يهدّدوا بزوالها بالكليّة إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها. وقوله {انْظُرْ} تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتّى أنّ النّاظر يستطيع أن يراها، فأمّا الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم.
...هنا يأمر الحق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستنطقهم: ماذا يفعلون إن سلب الله السمع وغطى قلوبهم بما يجعلها لا تدرك شيئا، وسلب منهم نعمة البصر، هل هناك إله آخر يستطيع أن يرد لهم ما سلبه الحق سبحانه منهم؟ لقد أخذوا نعمة الله واستعملوها لمحادة الله وعداوته، أخذوا السمع ولكنهم صموا عن سماع الهدى، وأخذوا الأبصار ولكنهم عموا عن رؤية آيات الله. ومنحوا القلوب ولكنهم أغلقوها في وجه قضايا الخير. فماذا يفعلون إن أخذ الله منهم هذه النعم؟ هل هناك إله آخر يلجؤون إليه ليستردوا ما أخذه الله منهم؟. وترى في الحياة أن الحق قد حرم بعضا من خلقه من نعم أدامها على خلق آخرين. إن في ذلك وسيلة إيضاح في الكون. وإياك أن تظن أيها الإنسان أن الحق حين سلب إنسانا نعمة، أنه يكره هذا الإنسان، إنه سبحانه أراد أن يذكر الناس بأن هناك منعما أعلى يجب أن يؤمنوا به. والمؤمن حين يرى إنسانا من أصحاب العاهات فهو يشكر الله على نعمه، إن الحق – سبحانه – بواسع رحمته يعطي صاحب العاهة تفوقا في مجال آخر.