اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ هُمۡ يَصۡدِفُونَ} (46)

{ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ } المفعول الأوَّل محذوف ، تقديره : أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصاركم إن أخذها اللَّهُ ، والجملة الاسْتِفْهَامِيَّةُ في موضع الثاني ، وقد تقدَّم أن أبا حيَّان يجعله من التَّنازُعِ ، وجوابُ الشرط مَحْذُوفٌ على نحو ما مَرَّ .

وقال الحوفي : وحَرْفُ الشَّرْطِ وما اتَّصَلَ به في موضع نَصْبٍ على الحالِ ، والعاملُ في الحالِ " أرأيتم " كقولك : " اضْرِبْهُ إن خرج " أي : خارجاً ، وجواب الشَّرْطِ ما تقدَّم مما دَخَلَتْ عليه هَمْزَةُ الاستفهام وهذا إعرابٌ لا يَظْهَرُ .

ولم يُؤتَ هنا ب " كاف " الخطاب ، وأتِيَ به هناك ؛ لأن التَّهْديدَ هناك أعْظَمُ فَنَاسَبَ التأكيد بالإتيان ب " كاف " الخطاب ولمَّا لم يُؤتَ بالكافِ وجَبَ بروز علامةِ الجَمْعِ في التاء لئلا يَلْتَبِسَ ، ولو جيء معها بالكافِ لاسْتُغْنِيَ بها كما تقدَّمَ ، وتوْحِيدُ السَّمْعِ ، وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ مما تقدَّم في " البقرة " .

قوله : " مَنْ إلهٌ " مبتدأ وخبر ، و " مَنْ " استِفْهَامِيَّةٌ ، و " غيرُ الله " صِفَةٌ ل " إله " و " يأتيكم " صِفَةٌ ثانية ، و " الهاء " في " به " تعود على " سمعكم " .

وقيل : تعود على الجميع ، ووُحِّد ذهَاباً به مذهب اسم الإشارةِ .

وقيل : تعود على الهدى المدلول عليه بالمعنى .

وقيل : يَعُودُ على المَأخُوذِ والمختُومِ المدلول عليهما بالأخذ والخَتْمِ ، والاستفهامُ هنا للإنكارِ .

والجمهور{[13907]} : " بِهِ انظر " بكسر الهاء على الأصل ، وروى المُسَيَّبي عن نافعٍ " بهُ انظر " بضم الهاء [ وهي لغةُ من يقرأ " فخسفنا بهو وبدارهُو الأرض " فحذف " الواو " لالتقاء الساكنين ، فصارَ " به انظر " والباقون بكسرها{[13908]} .

وقرأ حمزة{[13909]} ، والكسائي " يَصْدِفُونَ " بإشْمَامِ الزَّاي ، والباقون بالصاد{[13910]} .

فصل في معنى الآية

قال ابنُ عبَّاسٍ : المعنى : أيُّها المشركونُ إنْ أخَذَ الله ، أي : أذهب وانْتَزَعَ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ ، وختم على قلوبكم ، أي : طبع على قلوبكم فلم تَعْقِلِ الهُدَى{[13911]} .

وقيل : معناه : أزال عقولكم حتى تصيروا كالمَجَانين .

وقيل : المُرَادُ من هذا الخَتْمِ الأمانة .

فصل في إثبات الصانع

المرادُ من هذا الكلام الدِّلالةُ على وُجُودِ الصانع الحكيم المُخْتَار ؛ لأن أشْرَفَ أعضَاءِ الإنْسَانِ هو السَّمْعُ والبصر والقَلْبُ ، والأذن محل القوة السَّامعة ، والعَيْنُ مَحَلُّ القوة البَاصِرَةِ ، والقَلْبُ مَحَلُّ الحياة والعِلْمِ والعَقْلِ ، فلوْ زالَتْ هذهِ الصِّفَات عن هذه الأعضاء اخْتَلَّ أمْرُ الإنسان ، وبَطَلَتْ مَصَالِحُهُ في الدنيا والدِّين .

ومن المعلوم بالضرورة أن القَادِرَ على تحصيل هذه القُوَى فيها ، وصونها عن الآفَاتِ ليس إلا الله تعالى ، وإذا كان الأمْرُ كذلك كان المُنَعِمُ بهذه النعم العظيمة هو الله سُبْحَانَهُ وتعالى .

قوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَات } .

" كيف " مَعْمُول ل " نُصرِّفُ " ونَصبُها : إمَّا على التَّشْبيه بالحالِ ، او التشبيه بالظَّرْفِ ، وهي مُعْلِّقةٌ ل " انظر " فهي في مَحَلِّ نصب بإسْقَاطِ حرفِ الجرِّ ، وهذا ظاهرٌ مما تقدَّم .

و " نُصَرِّف " : نُبَيِّنُ ، و " يَصْدِفُون " معناه : يُعْرِضُونَ ، يقال : صَدَف عن الشيء صَدفاً وصدوفاً وصدافيةً ، وصادَفْتُهُ مُصادفَةً أي : لقِيتُهُ عن إعْراضٍ من جهتِهِ .

قال عِدِيُّ بْنُ الرقَاعِ : [ البسيط ]

إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أحْسَنَهُ *** وهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ{[13912]}

" صُدُف " جمع " صَدُوف " ك " صُبُر " في جمع " صَبُور " .

وقيل : معنى " صَدَف " : " مال " ، مأخوذة من الصَّدَفِ في البعيرِ ، وهو أن يميل خُفُّهُ من اليد إلى الرِّجْلِ من الجانب الوَحْشِيّ .

و " الصَّدَفُ " جمع " صَدَفَة " ، وهي المحَارَةُ التي تكون فيها الدُّرَّة .

قال : [ البسيط ]

وَزَادَهَا عَجَباً أنْ رُحْتُ فِي سُبُلٍ *** وَمَا دَرَتْ دَوَرانَ الدُّرِّ في الصَّدَفِ{[13913]}

و " الصَّدَفُ " و " الصُّدُف " بفتح الصاد والدال وضمّهما ، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجَبَلِ المُرْتفعِ ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان .

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

قال الكعبي{[13914]} : دلَّت هذه الآية على أن اللَّه -تعالى- مَكَّنَهُمْ من الفَهْمِ ، ولم يخلق فيهم الإعْرَاضَ والصَّدَّ ، ولو كان تعالى هو الخَالِق للكفر فيهم لم يكن لهذا الكلامِ مَعْنَى .

واحْتَجَّ أهل السُّنَّةِ بعين هذه الآية قالوا : إنه -تعالى- بيَّن أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها ، وإزالة الشبهات عنها ، ثم إنهم مع هذه المُبَالَغةِ القَاطِعَةِ للعُذْرِ ما زادوا إلاَّ تَمَادِياً في الكُفْرِ والعنادِ ، وذلكَ يَدُلُّ على أن الهُدَى والإضْلالَ لا يحصلان إلاَّ بهداية الله -تعالى- وإضْلالِهِ ، فَدَلالَةُ الآية على قولنا أقوى من دَلالتهَا على قولهم .


[13907]:ينظر: الدر المصون 3/66،البحر المحيط 4/135، إتحاف فضلاء البشر 2/12، السبعة 3/310.
[13908]:ينظر: الدر المصون 3/66، البحر المحيط 4/135، إتحاف فضلاء البشر 2/12، السبعة 3/310.
[13909]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/12.
[13910]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/12.
[13911]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (6/276) عن ابن عباس.
[13912]:البيت في تفسير الطبري 5/195، المحرر الوجيز 2/534، اللسان (صدق) القرطبي 6/428، البحر 4/122، الدر المصون 3/66.
[13913]:البيت لأبي هفان ينظر: التبيان 2/281، والوساطة ص 325 والبحر 4/122، والدر المصون 3/66.
[13914]:ينظر: الرازي 12/188.