أخيرا يذكر مريم بمناسبة ذكر ابنها عليه السلام :
( والتي أحصنت فرجها ، فنفخنا فيها من روحنا ، وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .
ولا يذكر هنا اسم مريم ، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها - عليه السلام - وقد جاءت هي تبعا له في السياق . إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها : ( والتي أحصنت فرجها ) . أحصنته فصانته من كل مباشرة . والإحصان يطلق عادة على الزواج بالتبعية ، لأن الزواج يحصن من الوقوع في الفاحشة . أما هنا فيذكر في معناه الأصيل ، وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية . وذلك تنزيها لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل . والذي تقول عنه الأناجيل المتداولة ، إنه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم يقربها .
لقد أحصنت فرجها ( فنفخنا فيها من روحنا )والنفخ هنا شائع لا يحدد موضعه كما في سورة التحريم - وقد سبق الحديث عن هذا الأمر في تفسير سورة مريم - ومحافظة على أن نعيش في ظلال النص الذي بين أيدينا فإننا لا نفصل ولا نطول ، فنمضي مع النص إلى غايته :
( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .
وهي آية غير مسبوقة ولا ملحوقة . آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا . ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا ؛ وتدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس ، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس .
هكذا قَرَن تعالى{[19848]} قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى ، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر . هكذا وقع في سورة " آل عمران " ، وفي سورة " مريم " ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وهذا كقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد عن شَبِيب{[19849]} - يعني ابن بشر{[19850]} - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر التي أحصنت فرجها ، يعني مريم بنت عمران . ويعني بقوله : أحْصَنَتْ : حفظت ، ومنعت فرجها مما حرّم الله عليها إباحته فيه .
واختُلف في الفرّج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته ، فقال بعضهم : عَنَى بذلك فَرْجَ نفسها أنها حفظته من الفاحشة .
وقال آخرون : عَنَى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرئيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها وقبل أن تثبته معرفة . قالوا : والذي يدلّ على ذلك قوله : فَنَفَخْنا فِيها ويعقب ذلك قوله : والّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها قالوا : وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام : والتي أحصنت جيبها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال : أحصنت فرجها من الفاحشة لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه والأظهر في ظاهر الكلام . فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا يقول : فنفخنا في جيب درعها من روحنا . وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله : فَنَفَخْنا فِيها في غير هذا الموضع والأولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً للْعَالمِينَ يقول : وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما ، فيعلمون عظيم سلطاننا وقُدرتنا على ما نشاء وقيل «آية » ولم يقل «آيتين » وقد ذكر آيتين لأن معنى الكلام : جعلناهما عَلَما لنا وحجة ، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله وعلى عظيم قُدرته يقوم مقام الاَخر ، إذْ كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.