ثم تعبير عن صفة الله سبحانه ، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفا ، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين ؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله ، بما يطمئن ويروح ، ويشف شفافية النور :
( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) . .
إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله ، كالذين يطلبون في سماجة دليلا ماديا على الله ! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون !
إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك . . كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون ، والقيام بالخلافة في الأرض . . وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق . . فأما ذات الله - سبحانه - فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها . لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي . فضلا على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض . وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها . .
وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين . ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين ! إن هؤلاء يتحدثون عن " الذرة " وعن " الكهرب " وعن " البروتون " وعن " النيوترون " . . وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهربا ولا بروتونا ولا نيوترونا في حياته قط . فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات . . ولكنها مسلمة من هؤلاء كفرض ، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثارا معينة تقع لوجود هذه الكائنات . فإذا وقعت هذه الآثار [ جزموا ] بوجود الكائنات التي أحدثتها ! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو " احتمال " وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها ! . . ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله - سبحانه - عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضا على العقول ! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويطلبون دليلا ماديا تراه الأعين . .
كأن هذا الوجود بجملته ، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل !
وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس . وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه : ( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) .
وقوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } فيه أقوال للأئمة من السلف :
أحدها : لا تدركه في الدنيا ، وإن كانت تراه في الآخرة{[11005]} كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن ، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب . [ وفي رواية : على الله ]{[11006]} فإن الله يقول : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }
رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي الضحى ، عن مسروق . ورواه غير واحد عن مسروق ، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة غير وجه{[11007]}
وقد خالفها ابن عباس ، فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين . والمسألة تذكر في أول " سورة النجم " إن شاء الله [ تعالى ]{[11008]}
وقال ابن أبي حاتم : ذكر محمد بن مسلم ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، حدثنا يحيى بن مَعِين قال : سمعت إسماعيل بن عُليَّة يقول في قول الله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : هذا في الدنيا . قال : وذكر أبي ، عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك .
وقال آخرون : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } أي : جميعها ، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة{[11009]}
وقال آخرون ، من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية : إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة . فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك ، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله . أما الكتاب ، فقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] ، وقال تعالى عن الكافرين : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] .
قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمنين لا يُحْجَبُون عنه تبارك وتعالى .
وأما السنة ، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجرير ، وصُهَيْب ، وبلال ، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات ، وفي روضات الجنات ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين .
وقيل : المراد بقوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } أي : العقول . رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين ، عن الفلاس ، عن ابن مهدي ، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك . وهذا غريب جدًا ، وخلاف ظاهر الآية ، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية ، والله [ سبحانه وتعالى ]{[11010]} أعلم .
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم . ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ، ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى .
وقال آخرون : المراد بالإدراك الإحاطة . قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال الله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] ، وفي صحيح مسلم : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " {[11011]} ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا .
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : لا يحيط بصر أحد{[11012]} بالملك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط عن سماك ، عن عِكْرِمة ، أنه قيل له : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } ؟ قال : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى . قال : فكلها ترى ؟ .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } هو أعظم من أن تدركه الأبصار .
وقال ابن جرير : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عرفجة ، عن عطية العوفي في قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] ، قال : هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، وبصره محيط بهم . فذلك قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }
وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث . رواه ابن أبي حاتم هاهنا ، فقال :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث السهمي{[11013]} حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : " لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فَنُوا صُفّوا صفًا واحدًا ، ما أحاطوا بالله أبدا " .
غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة{[11014]} والله أعلم .
وقال آخرون في [ قوله تعالى ]{[11015]} { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } بما رواه الترمذي في جامعه ، وابن أبي عاصم في كتاب " السنة " له ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن مَرْدُوَيه أيضا ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحكم بن أبان قال : سمعت عِكْرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى . فقلت : أليس الله يقول : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } الآية ؟ فقال : لي " لا أم لك . ذلك نوره ، الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء " . وفي رواية : " لا يقوم له شيء " .
قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[11016]}
وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام يخفض{[11017]} القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - أو : النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " {[11018]}
وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . أي : تدعثر . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة{[11019]} يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء . فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه - تعالى وتقدس وتنزه - فلا تدركه الأبصار ؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه ، فإن ذلك غير ممكن للبشر ، ولا للملائكة ولا لشيء .
وقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } أي : يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه ؛ لأنه خلقها كما قال تعالى : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .
وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين ، كما قال السُّدِّي في قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } لا يراه شيء وهو يرى الخلائق .
وقال أبو العالية في قوله [ تعالى ]{[11020]} { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } اللطيف باستخراجها ، الخبير بمكانها . والله أعلم .
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] .