وكلها تستهدف غاية واحدة : ( هدى للناس ) . . وهذا الكتاب الجديد " فرقان " بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة ، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية [ التي رأينا نموذجا منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت . و . آرنولد في كتاب " الدعوة إلى الإسلام " ] .
وهي تقرر - ضمنا - أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة . فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها . وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة . ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر . وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله ، يضم جناحيه على " الحق " الذي تضم جوانحها عليه . وقد نزله من يملك تنزيل الكتب . . فهو منزل من الجهة التي لها " الحق " في وضع منهاج الحياة للبشر ، وبناء تصوراتهم الاعتقادية ، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله .
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله ، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه . . والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه . . وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل ، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد - وهو فرقان واضح مبين - هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر ، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من قبل} هذا القرآن، ثم قال: التوراة والإنجيل هما {هدى للناس}، يعني لبنى إسرائيل من الضلالة. {وأنزل الفرقان}: القرآن بعد التوراة والإنجيل، والفرقان يعني به المخرج في الدين من الشبهة والضلالة، فيه بيان كل شيء يكون إلى يوم القيامة. {إن الذين كفروا بآيات الله}: القرآن، وهم اليهود كفروا بالقرآن، وغيرهم. {لهم عذاب شديد}: في الآخرة. {والله عزيز ذو انتقام}: عزيز في ملكه، منيع شديد الانتقام، هذا وعيد لمن خالف أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: يا محمد إن ربك وربّ عيسى ورب كل شيء، هو الرب الذي أنزل عليك {الكِتَابَ} يعني بالكتاب: القرآن. {بالحقّ} يعني بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران، وسائر أهل الشرك غيرهم. {مُصَدّقا لما بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده، لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير...
عن محمد بن جعفر بن الزبير: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ} أي بالصدق فيما اختلفوا فيه...
عن قتادة: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يقول: القرآن مصدّقا لما بين يديه من الكتب التي قد خلت قبله...
{وَأنْزَلَ التّوْرَاةَ والإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ}.
يعني بذلك جل ثناؤه: وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى. {مِنْ قَبْلُ} يقول: من قبل الكتاب الذي نزّله عليك. ويعني بقوله: {هُدًى للنّاسِ} بيانا للناس من الله، فيما اختلفوا فيه من توحيد الله وتصديق رسله، ومفيدا يا محمد أنك نبيي ورسولي، وفي غير ذلك من شرائع دين الله... {وأنْزَلَ الفُرْقانَ} يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصل بين الحقّ والباطل، فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره. وقد بينا فيما مضى أن الفُرقان إنما هو الفُعلان من قولهم: فرق الله بين الحقّ والباطل يفصل بينهما بنصره بالحق على الباطل إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدي والقوّة.
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى، وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع... عن محمد بن جعفر بن الزبير: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} أي الفصل بين الحقّ والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره... عن قتادة: {وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ} هو القرآن أنزله على محمد وفرق به بين الحقّ والباطل، فأحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته...
والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع، وأن يكون معنى الفرقان في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذي حاجوه في أمر عيسى وفي غير ذلك من أموره بالحجة البالغة القاطعة عُذْرَهم وعُذْرَ نظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية قد مضى بقوله: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرّة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء.
{إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَاللّهُ عَزِيزٌ ذو انْتِقام}.
يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبد له واتخذوا المسيح إلها وربا، أو ادّعوه لله ولدا، {لهم عَذَابٌ} من الله {شَدِيدٌ} يوم القيامة، والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله. وآيات الله: أعلام الله وأدلته وحُججه.
وهذا القول من الله عزّ وجلّ، ينبئ عن معنى قوله: {وأنْزَلَ الفُرْقَانَ} أنه معنيّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحقّ على أهل الباطل لأنه عقب ذلك بقوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ} يعني: أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحقّ والمبطل، {لهمْ عذابٌ شديدٌ} وعيد من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه. ثم أخبرهم أنه عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد، وأنه ذو انتقام ممن جحد حججه وأدلته، بعد ثبوتها عليها، وبعد وضوحها له ومعرفته بها..
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} من بعد. وقال بعضهم: {هدى للناس}: بيانا لهم وحجة لمن اهتدى وحجة على من عمي؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى وعليه حجة، فيه الهلاك، إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى، وعليه إذ أنزل الاهتداء. {وأنزل الفرقان} قد ذكرنا في ما تقدم أنه إنما سمي فرقانا لوجهين: أحدهما: لما فرق آياته، وفرق إنزاله. والثاني: لما يفرق بين الحق والباطل وبين الحرام والحلال وبين ما يتقى، ويؤتى. فعلى هذا كل كتاب مبين فيه الحلال ومبين ما يتقي، ويؤتى. {إن الذين كفروا بآيات الله}: بحجج الله، وقيل: {كفروا بآيات الله}: بالله، لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به، وكذلك الكفر بدينه كفر به، والبراءة من دينه براءة منه، والبراءة من رسوله براءة منه. {والله عزيز ذو انتقام}: قيل: {ذوا انتقام} لأوليائه من أعدائه، وقيل: {ذو انتقام} ذو انتصار على الأعداء، وقيل: ذو بطش شديد...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَاللهُ عَزِيزٌ} فيه وجهان: أحدهما: في امتناعه. والثاني: في قدرته. {ذُو انتِقَامٍ} فيه وجهان: أحدهما: ذو سطوة. والثاني: ذو اقتضاء...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"والله عزيز ذو انتقام"؛ فالعزيز: المنيع الذي لا يُقْدَر عليه، ومنه: الأرض العزاء، وهي الصلبة الشاقة المسلك، وقيل: العزيز: الغالب الذي لا يفوته شيء، ومنه: يقال: من عَزَّ بَزَّ أي من غلب سلب. والمنتقم: المعاقب على الجناية، والنقمة: العقوبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هُدًى لّلنَّاسِ} أي لقوم موسى وعيسى. ومن قال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا فسره على العموم. فإن قلت: ما المراد بالفرقان؟ قلت: جنس الكتب السماوية، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل، أو الكتب التي ذكرها، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة: وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من كتبه، أو من هذه الكتب، أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور، كما قال: {وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} [النساء: 163] وهو ظاهر. أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس، تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هدى للناس}: دعاء، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع، لأنهم المدعوون بهما لا غير، وإن أراد أنهما {هدى} في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره، منصوب لمن اهتدى به، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر...
قال القاضي رحمه الله: وقال هنا {للناس}، وقال في القرآن {هدى للمتقين}، وذلك عندي، لأن هذا خبر مجرد، وقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة، ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس، فسمي {هدى} لذلك، وقال ابن فورك: التقدير هنا هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر، و {الفرقان}: القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، قال محمد بن جعفر، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، الذي جادل فيه الوفد، وقال قتادة والربيع وغيرهما، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام ونحوه، و {الفرقان} يعم هذا كله، وقال بعض المفسرين، {الفرقان} هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب. ثم توعد تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة، وعذاب الآخرة بالنار، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وقال النقاش: إلى اليهود. و {عزيز}: غالب، وقد ذل له كل شيء. والنقمة والانتقام، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقييد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن {من قبل} أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل {هدى} أي بياناً، ولذا عم فقال: {للناس} وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل: كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته. ولما كانت مادة "فرق "للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبة المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى: {وأنزل الفرقان} أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة. قال الحرالي: فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الانفال: 29] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب: رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع التقاء ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى. ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما كان خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة، وكان نزوله هو في آخر الزمان علماً على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاة والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق. وقال ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه"، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] انتهى. ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك قوله: {إن الذين كفروا} أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه {بآيات الله} المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله، قال: فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى. {لهم عذاب شديد} كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب. قال الحرالي: ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى. والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال: إنه لما قال: {وأنزل الفرقان} [آل عمران: 4] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى لما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد إليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب. ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال: {إن الذين} مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به و عبر به فقال: عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه: فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم: {والله} أي الملك العظيم مع كونه رقيباً {عزيز} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {ذو انتقام} أي تسلط وبطش شديد بسطوة. قال الحرالي: فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة القيومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى. وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران. يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فتارة يقولون: هو الله، وتارة يقولون: هو ابن الله، وتارة يقولون، هو ثالث ثلاثة، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه: فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه؟ فقال له: لو اتبعناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها. واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم} [آل عمران: 10] {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال: {اصبروا وصابروا} [آل عمران: 200]، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في {والله عزيز} إلى تقديره، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة...
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقييد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن {من قبل} أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل {هدى} أي بياناً، ولذا عم فقال: {للناس} وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل: كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته. ولما كانت مادة "فرق" للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبة المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى: {وأنزل الفرقان} أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة. قال الحرالي: فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الانفال: 29] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب: رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع التقاء ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى. ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما كان خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة، وكان نزوله هو في آخر الزمان علماً على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاة والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق. وقال ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] انتهى. ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك قوله: {إن الذين كفروا} أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه {بآيات الله} المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله، قال: فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى. {لهم عذاب شديد} كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب. قال الحرالي: ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى. والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال: إنه لما قال: {وأنزل الفرقان} [آل عمران: 4] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى لما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد إليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب. ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال: {إن الذين} مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به و عبر به فقال: عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه: فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم: {والله} أي الملك العظيم مع كونه رقيباً {عزيز} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {ذو انتقام *} أي تسلط وبطش شديد بسطوة.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
ويجوز أن يكون المراد بالفرقان الميزان المشار إليه في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). والميزان هو العدل في الأمور كلها، واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وقال الأستاذ الإمام: إن الفرقان هو العقل الذي به تكون التفرقة بين الحق والباطل وإنزاله من قبيل إنزال الحديد. لأن كل ما كان عن الحضرة العلية الإلهية يسمى إعطاؤه إنزالا: وما قاله قريب مما اختاره ابن جرير من التفسير المأثور، فإن العقل هو آلة التفرقة. ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الشورى {هو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 15] وقد فسروا الميزان بالعدل، فالله تعالى قرن أمرين أحدهما الفرقان وهو ما نعرف به الحق في العقائد فنفرقه من الباطل، وثانيهما الميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام فنعدل بين الناس فيها. وكل من العقل والعدل من الأمور الثابتة في نفسها. فكل ما قام عليه البرهان العقلي في العقائد وغيرها فهو حق منزل من الله. وكل ما قام به العدل فهو حكم منزل من الله، وإن لم ينص عليه في كتاب الله، فإنه تعالى هو المنزِّل، أي المعطي للعقل والعدل، أو الفرقان والميزان. كما أنه سبحانه هو المنزل أي المعطي للكتاب، أي لسنا نستغني بشيء من مواهبه المنزلة عن آخر...
ومازال علماء الكلام وأهل التوحيد يعدون البراهين العقلية هي الأصل في معرفة العقائد الدينية. ويجب على علماء الأحكام وأهل الفقه أن يحذوا حذوهم في العدل فيعلموا أنه يمكن أي يعرف ويطلب لذاته، وأن النصوص الواردة في بعض الأحكام مبينة له وهادية إليه وأكثر الأحكام القضائية في الإسلام اجتهادية فيجب أن يكون أساسها تحري العدل. والغزالي يفسر الميزان بالعقل الذي يؤلف الحجج ويميز بين الحق والباطل والعدل والجور وغير ذلك. وفي حديث جابر عند البيهقي "قوام المرء العقل ولا دين لمن لا عقل له "ومن حديثه عند أبي الشيخ في الثواب وابن النجار (دين المرء عقله ومن لا عقل له لا دين له)... {إن الذين كفروا بآيات الله} التي أنزلها لهداية عباده وإرشادهم إلى طرق السعادة في المعاش والمعاد {لهم عذاب شديد} بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تطفئ نورها، وما يجرهم إليه من المعاصي والمفاسد التي تدسي نفوسهم وتدنسها حتى تكون ظلمة عقولهم وفساد نفوسهم منشأ عذابهم الشديد في تلك الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية العقلية على الحياة البدنية المادية، فلا يكون لهم شاغل ولا مسل من المادة عما فاتهم من النعيم وما أصابهم من الجحيم. {والله عزيز ذو انتقام} فهو بعزته ينفذ سننه فينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض. والانتقام من النقمة وهي السطوة والسلطة ويستعمل أهل هذا العصر الانتقام بمعنى التشفي بالعقوبة، وهو بهذا المعنى محال على الله تعالى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكلها تستهدف غاية واحدة: (هدى للناس).. وهذا الكتاب الجديد "فرقان "بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية [التي رأينا نموذجا منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت. و. آرنولد في كتاب "الدعوة إلى الإسلام "]. وهي تقرر -ضمنا- أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة. فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها. وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة. ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر. وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله، يضم جناحيه على" الحق "الذي تضم جوانحها عليه. وقد نزله من يملك تنزيل الكتب.. فهو منزل من الجهة التي لها" الحق "في وضع منهاج الحياة للبشر، وبناء تصوراتهم الاعتقادية، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله. ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه.. والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه.. وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد -وهو فرقان واضح مبين- هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تقديم {مِنْ قبلُ} على {هدَى للناس} للاهتمام به. وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إنّ الدينَ عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] فالهدى الذي سبقه غير تام. و {للناس} تعريفه إمّا للعهد: وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين، وإمّا للاستغراق العُرفي: فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه. والفرقان: أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى: {وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان} [الأنفال: 41] وهو يوم بدر. وسمّي به القرآنُ قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] والمراد بالفرقان هنا القرآن؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة. وإعادةُ قوله: {وأنزل الفرقان} بعد قوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} للاهتمام، وليُوصَل الكلام به في قوله: {إن الذين كفروا بآيات اللَّه} [آل عمران: 4] الآية أي بآياته في القرآن. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بآيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}. استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل. وشَمل قولُه: {الذين كفروا بآيات الله} المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله؛ لأنّه مُعجزة. وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً؛ لأنّ الصلة تجمعهم، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله: {لهم عذاب شديد}. وعطف قوله: {والله عزيز ذو انتقام} على قوله: {إن الذين كفروا بآيات الله} لأنّه من تكملة هذا الاستئناف: لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم؛ إذ هو عذابُ عزيزٍ منتقم كقوله: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]. {والعزيز} تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة (209): {فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم.} والانتقام: العقاب على الاعتداء بغضب، ولذلك قيل للكاره: ناقم. وجيء في هذا الوصف بكلمة (ذو) الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{و أنزل الفرقان}: {الفرقان} هنا هو: القرآن، و كرر ذكره بعد أن ذكرت التوراة و الإنجيل، للإشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله تعالى، و أنه تتميم لما سبقه، و أنه كمال هذه الشرائع كلها، و أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر لبنة في صرح الشرائع الإلهية، و بنزولها كمل دين الله. و كرر ذكره أيضا لوصفه بالفرقان، فهو أتى بمعنى جديد لا يغني عنه ذكر الكتاب أولا. و وصف القرآن الكريم بالفرقان، لأنه فارق بين الحق و الباطل، و مبين للصادق من الكتب السابقة، و لأنه فارق بين عهدين في الرسائل الإلهية، فقد كانت رسالات الرسل من قبل لأمم خاصة، و من بعد كانت الرسالة المحمدية للناس كافة، فمن قبله كانت الرسالات لعلاج أحوال عارضة وقتية، أما رسالة القرآن فعلاج لأدواء الإنسانية، و تقرير الصالح لها مهما تختلف الأمصار، و تتباعد الأقطار، و لأنه ميزان الحقائق إلى يوم القيامة، و لذلك قال تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان... 17} (الشورى)...
{إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام} ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله، أي معجزاته الباهرة، و آياته المتلوة القاهرة، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث: اليهودية، و النصرانية، و الإسلام، للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها، لأنه شريعته كمالها، و بها تمامها و ختامها، و للإشارة إلى أن اليهود و النصارى الذين لا يتبعون محمدا، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها، و اليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد صلى الله عليه و سلم،فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية، و هي الكمال، و قد بشرت به الكتب السابقة كلها، فالكفر به كفر بها، و الإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته، و لو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه و سلم. و من أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد، و خصوصا إذا كانوا من اليهود و النصارى، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى... ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد انه غالب، و أنه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال: {و الله عزيز ذو انتقام} أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء، مسيطر على كل شيء، ليس فوقه احد، و هو القاهر فوق عباده.و هو انتقام، أي أنه سبحانه له انتقام شديد لا يدرك كنهه، و لذلك نكر الانتقام. و الانتقام إنزال النقمة و الشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص، فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة، و جزاء وفاقا، و كذلك يكون عقاب الله تعالى، فانتقام الله ليس تشفيا و شفاء غيظ كما هو الشأن في البشر، بل انتقام الله عقوبة عادلة، و قصاص رادع. و عبر ب {ذو انتقام}، أي صاحب انتقام، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه و سلطانه ينزله أنى شاء، و متى شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته، وعلمه الذي يحيط بكل شيء، و لذا قال بعد ذلك:...
يأتي القول الفصل في: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}. هنا الجمع بين "نزل "و "أنزل". وساعة يقول الحق عن القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير...
ومعنى" مصدق "أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه" الصدق". وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه "كذبا". إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس:"إن كنت كذوبا فكن ذكورا". أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر. ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ}...
{مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: {هُدًى لِّلنَّاسِ}؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون {هُدًى لِّلنَّاسِ} معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها...