ثم يصفون حالهم عندما سمعوا الهدى ، وقد قرروه من قبل ، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان :
( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ) . .
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى . وهم سمعوا القرآن . ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته . ثم يقررون ثقتهم في ربهم ، وهي ثقة المؤمن في مولاه :
( فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) . .
وهي ثقة المطمئن إلى عدل الله ، وإلى قدرته ، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته . . فالله - سبحانه - عادل ، ولن يبخس المؤمن حقه ، ولن يرهقه بما فوق طاقته . والله - سبحانه - قادر . فسيحمي عبده المؤمن من البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقا ، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة . ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية الله ورعايته ? ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا ؛ ولكن هذا ليس هو البخس ، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس . وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض ؛ لكن هذا ليس هو الرهق ، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به ! وصلته بربه تهون عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة .
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق : ( فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) . . وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية ، فلا يعيش في قلق وتوجس . حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع ، ولم تغلق على نفسه المنافذ . . إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر . ويرجو فرج الله منها فيؤجر . وهو في الحالين لم يخف بخسا ولا رهقا . ولم يكابد بخسا ولا رهقا .
البخس : النقص على سبيل الظلم .
رهقا : ظلما ومشقة عليه ، بالزيادة في آثامه وسيئاته .
13- وأنّا لما سمعنا الهدى آمنّا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا .
يعود الجن إلى سعادتهم بالإيمان والقرآن ، فيقولون : وأنّا لما سمعنا القرآن يتلى –وهو هداية ورشد- آمنا به ، وصدقنا بالإسلام ، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فالمؤمن في رعاية الله وعدالته ، وحاشا لله أن يظلم أحدا .
قال تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم . . . ( النساء : 147 ) .
فمن يؤمن بالله فلا يخاف بخسا ولا نقصا من حسناته ، ولا يخاف رهقا ، أي : إرهاقه بالسيئات أو بالهوان والمذلّة .
قال تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما . ( النساء : 40 ) .
وقال عز شأنه : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } أي القرآن الذي هو الهدى بعينه { بِهِ إِنَّهُ } من غير تلعثم وتردد { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ } وبما أنزله عز وجل { فَلاَ يَخَافُ } جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلا أن الأحسن تركها ولذا قدر ههنا مبتدأ لتكون الجملة اسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جواباً إلا فيما شذ من نحو :
من يفعل الحسنات الله يشكرها *** معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف { بَخْساً } أي نقصاً في الجزاء وقال الراغب البخس نقصا الشيء على سبيل الظلم { وَلاَ رَهَقاً } أي غشيان ذلة من قوله تعالى { وترهقهم ذلة } [ يونس : 27 ] وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبى مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه وحاصل المعنى فلا يخاف أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بخسا مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا وأما غيره فلا نصيب له فضلاً عن الكمال وفيه أن ما يجزي به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وان لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فلا يخاف بخسا ولا رهقاً لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهقه ظلماً فلا يخاف جزاءهما وليس من اضمار مضاف أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وان ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح ان يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الاضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحداً ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيهاً بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذاً وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته وأخرج عيد بن حميد عن قتادة أنه قال فلا يخاف بخساً ظلماً بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقاً ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان وبلفظ الرهق أيضاً نظراً إلى ما سمعت من قوله تعالى { وترهقهم ذلة } [ يونس : 27 ] وقرأ ابن وثاب والأعمش فلا يخف بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأياً ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وانه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والاختصاص إذا اقتضاهما المقام وقرأ ابن وثاب بخساً بفتح الخاء المعجمة .
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } وهو القرآن الكريم ، الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعرفنا هدايته وإرشاده ، أثر في قلوبنا ف { آمَنَّا بِهِ } .
ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا : { فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ } إيمانا صادقا { فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا } أي : لا نقصا ولا طغيانا ولا أذى يلحقه{[1251]} ، وإذا سلم من الشر حصل له الخير ، فالإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر .