النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخۡسٗا وَلَا رَهَقٗا} (13)

{ وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به } يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته ، وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس .

قال الحسن : بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء ، وذلك قوله تعالى : { وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } .

{ فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً } قال ابن عباس :

لا يخاف نقصاً في حسناته ، ولا زيادة في سيئاته ، لأن البخس النقصان ، والرهق : العدوان ، وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم ، وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال : بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به{[3104]} رجل ، فقيل له : أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين ؟ قال : ومن هو ؟ قالوا : سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف ، وكان له رئيّ من الجن ، فأرسل إليه عمر فقال له : أنت سواد بن قارب ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك ؟ قال : نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :

عجبْتُ للجنّ وتطلابها *** وشدِّها العِيسَ بأذْنابها .

تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى *** ما صادقُ الجن ككذّابها .

فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ *** فليس قد أتاها كاذباً بها .

فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قاله رأساً ، فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :

عجبْتُ للجنّ وتخيارها *** وشدِّها العيس بأكوارها .

تهوي إلى مكة تبغي الهدي *** ما مؤمن الجن ككفّارِها

فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ *** ما بين رابيها وأحجارها .

فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قال رأساً ، فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله ، وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :

عجبت للجن وتحساسها *** وشدِّها العيسَ بأحْلاسها .

تهوي إلى مكة تبغي الهُدي *** ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها .

فارحلْ إلى الصفوة من هاشم *** واسم بيديْك إلى رأسها .

قال : فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام ، فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة ، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه ، قال : هات ، فأنشأت أقول :

أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ *** ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ

ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ *** أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب

فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت *** بي الذملُ الوجناء بين السباسِب

فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ *** وأنك مأمولٌ على كل غالبِ .

وأنك أدني المرسلين وسيلةً *** إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب .

فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى *** وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب .

وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ *** سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب .

ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحاً شديداً ، حتى رئي الفرح في وجوههم ، قال : فوثب عمر فالتزمه وقال : قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث ، فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم ؟ قال : [ أما ] وقد قرأت القرآن فلا ، ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن .


[3104]:ذكر ابن هشام هذا الخبر مع بعض اختلاف انظر السيرة النبوية 1/ 233.