هذه ضفة العذاب الأليم . والآن إلى ضفة النعيم والتكريم :
( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . .
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان . والأظهر أنهما ضمن الجنة الكبيرة المعروفة ! ولكن اختصاصهما هنا بالذكر قد يكون لمرتبتهما . وسيأتي في سورة الواقعة أن أصحاب الجنة فريقان كبيران : هما السابقون المقربون . وأصحاب اليمين . ولكل منهما نعيم . فهنا كذلك نلمح أن هاتين الجنتين هما لفريق ذي مرتبة عالية . وقد يكون فريق السابقين المقربين المذكورين في سورة الواقعة . ثم نرى جنتين أخريين من دون هاتين . ونلمح أنهما لفريق يلي ذلك الفريق . وقد يكون هو فريق أصحاب اليمين .
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 ) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 ) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ( 56 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 ) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 ) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 ) }
مقام ربه : قيامه بين يدي ربه للحساب ، أي أنّ مقام اسم مكان ، والمراد به مكان وقوف الخلق ، وقيامهم عند ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، قال تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين . ( المطففين : 6 ) .
أفنان : غصون ، جمع فنن ، وهو ما دق ولان من الأغصان .
46 ، 47 ، 48 ، 49- { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
قيل : إن الآيات نزلت في أبي بكر الصديق ، خاف الوقوف والحساب ، فتمنى أن لو كان نباتا أخضر تأكله دابة ، والحق أن الآية عامة في كل من خاف مقام ربّه ، أي القيام بين يدي ربه للحساب ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، أي يقفون للحساب والجزاء .
فلكل من خاف الموقف في ذلك اليوم ، وعمل الطاعات ، وتجنب المعاصي ، جنتان : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المحرمات ، وقيل : جنة لسكنه ، وجنة لأزواجه وخدمه ، كما هي حال ملوك الدنيا ، حيث يكون له قصر ولأزواجه قصر .
قال القرطبي : وإما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة .
أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا لربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " x .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب .
ولا أعلمه إلا قد رفعه في قوله تعالى : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق ( فضة ) لأصحاب اليمين .
ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه فقال :{ ولمن خاف مقام ربه } أي : مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية والشهوة . وقيل : قيام ربه عليه ، بيانه قوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }( الرعد-33 ) ، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله . وقوله :{ جنتان } قال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم . قال محمد بن علي الترمذي : جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته . قال الضحاك : هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية الله ، وما عمل من خير أفضى به إلى الله ، لا يحب أن يطلع عليه أحد . وقال قتادة : إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله ودأبوا بالليل والنهار .
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أنبأنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يونس ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى الحلواني ، وأنبأنا محمد بن حميد الهمداني ، أنبأنا هاشم بن القاسم عن أبي عقيل هو الثقفي عن يزيد بن شيبان سمعت بكير بن فيروز قال سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزي . عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول يا رسول الله ؟ قال : وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء " . { فبأي آلاء ربكما تكذبان } .
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان } : { مقام ربه } القيام بين يديه للحساب ومنه { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] ، وقيل : قيام الله بأعماله ، ومنه { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] ، وقيل : معناه : لمن خاف ربه وأقحم المقام ، كقولك خفت جانب فلان واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراده ، أو للصنف الخائف وذلك مبني على قوله : { لمن خاف مقام ربه } هل يراد به واحد أو جماعة ، وقال الزمخشري : إنما قال جنتان لأنه خاطب الثقلين فكأنه قال : جنة للإنس وجنة للجن .
{[61974]}ولما كان{[61975]} قد عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم ، وقدمه لما اقتضاه مقام التكبر من الترهيب وجعله سبعاً إشارة إلى أبواب النار السبعة ، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة وجعله ثمانية{[61976]} على عدد{[61977]} أبواب الجنة الثمانية فقال : { ولمن } أي{[61978]} ولكل من{[61979]} ، ووحد الضمير مراعاة للفظ { من } إشارة إلى قلة الخائفين { خاف } أي من الثقلين .
ولما كان ذكر الخوف من الزمان المضروب للحساب والتدبير والمكان المعد لهما أبلغ من ذكر الخوف من الملك المحاسب{[61980]} المدبر ، والخوف مع ذكر وصف الإكرام أبلغ من ذكر الخوف عند ذكر أوصاف الجلال ، قال دالاًّ بذلك على أن المذكور رأس الخائفين{[61981]} : { مقام ربه } أي مكان قيامه الذي يقيمه وغيره فيه المحسن إليه للحكم {[61982]}وزمانه الذي ضربه{[61983]} له وقيامه عليه وعلى غيره{[61984]} بالتدبير ، فهو رقيب عليه وعليهم ، فكيف إذا ذكر مقام المنتقم الجبار المتكبر فترك لهذا ما يغضبه وفعل ما يرضيه { جنَّتان } عن يمين وشمال ، واحدة للعلم والعقل وأخرى للعمل ، ويمكن أن يراد بالتثنية المبالغة إفهاماً لأنها جنان متكررة ومتكثرة مثل
قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان 46 فبأي آلاء ربكما تكذبان 47 ذواتا أفنان 48 فبأي آلاء ربكما تكذبان 49 فيهما عينان تجريان 50 فبأي آلاء ربكما تكذبان 51 فيهما من كل فاكهة زوجان 52 فبأي آلاء ربكما تكذبان } .
ذلك وعد من الله لعباده المؤمنين الذين يخشونه فيبادرون لطاعته واجتناب معاصيه . أولئك جزاؤهم الجنة وما فيها من أصناف النعيم . وهو قوله سبحانه : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } مقام ربه يراد به موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، فمن خشي الله واتقاه وحذر لقاءه يوم الحساب فله { جنتان } جنة للإنس ، وجنة للجن ، فهذه الآية عامة في الإنس والجن ، لأن الخطاب للثقلين . وبذلك يستدل من الآية على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ، ولهذا امتنّ الله سبحانه على الثقلين بقوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } .