ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر ، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول - [ ص ] - في شأن وعيد الله للمكذبين ؛ ذلك الوعيد الغامض ، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غداً ، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين ، ليبقى مصلتاً فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون . . وشيئاً فشيئاً تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله ، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحداً . . وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة ، في كلمات ولحظات ، في تصوير حي يلمس القلوب ، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع ، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح :
( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ، ثم الله شهيد على ما يفعلون . ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل أرأيتم : إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون . أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ثم قيل للذين ظلموا : ذوقوا عذاب الخلد ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون . ويستنبئونك أحق هو ? قل : إي وربي إنه لحق ، وما أنتم بمعجزين . ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) .
تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله ، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول [ ص ] أن يبلغه لهم ، في حياته أو بعد وفاته . فالمرجع إلى الله في الحالين . وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة ، وفي غيبته بالوفاة . فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول [ ص ] مما يوعدون .
( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ، ثم الله شهيد على ما يفعلون ) فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير ، لا يخرم منها حرف ، ولا يتغير بالطوارئ والظروف .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب ، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك فيهم . فإلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يقول : فمصيرهم بكلّ حال إلينا ومنقلبهم . ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ على ما يَفْعَلُونَ يقول جلّ ثناؤه ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها ، وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم جزاءهم الذي يستحقونه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وإمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك ، أوْ نَتَوَفَيّنّكَ قبل ، فإلَيْنا مَرْجِعُهُم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
كانَ ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله : { قال الكافرون إنّ هذا لسحر مبين } [ يونس : 2 ] ، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم ، والإشارةُ إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله : { ولو يعجل الله للناس الشر } إلى قوله : { لننظر كيف تعملون } [ يونس : 11 14 ] منذراً بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم ، وكان معلوماً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم رأفتُه بالناس ورغبتُه أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه ، فربما كان النبي يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم . وكان قوله : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } [ يونس : 11 ] تصريحاً بإمكان استبقائهم وإيماءً إلى إمهالهم . جاء هذا الكلام بياناً لذلك وإنذاراً بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل .
وجاء الكلام على طريقة إبْهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجاء وإن كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم .
والمرادُ ب { بعض الذي نعدهم } هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قال تعالى : { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } . فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيتَه أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال .
فمضمون { أو نتوفينك } قسيم لمضمون { نرينك بعضَ الذي نعدهم } .
والجملتان معاً جملتا شرط ، وجواب الشرط قوله : { فإلينا مرجعهم } .
ولما جعل جواب الشرطين إرجاعَهم إلى الله المكنَّى به عن العقاب الآجِل ، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين ، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة . وأما إراءة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير .
وإنما كُني عن التعجيل بأن يريد اللّهُ الرسولَ للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه ، ولذلك بُني على ضد ذلك ضدّ التعجيل فكُني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذْ كانت حكمة التعجيل هي الانتصافَ للرسول صلى الله عليه وسلم .
ولما جعل مضمون جملة : { نتوفينك } قسيماً لمضمون جملة : { نرينك } تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذَاهُم له انتصاراً له حتى يكون أمره جارياً على سنة الله في المرسلين ، كما قال نوح :
{ رب انصرني بما كذبون } [ المؤمنون : 26 ] وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه : { ولكل أمة رسول } [ يونس : 47 ] الآية وقوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] . وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم ، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة ، وقتل صناديدهم ، كما أشار إليه قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلّم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [ الدخان : 10 16 ] .
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الأرض . والبطشة الكبرى : بطشة يوم بدر .
وتأمَّلْ قوله : { ثم تولوا عنه } وقوله : { إنا منتقمون } .
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضاً إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول : لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده .
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة .
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازاً محكماً وصارت قوة الكلام هكذا : وإمّا نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم ، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك ، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا ، أي مرجعهم ثابت إلينا دوماً فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة .
وكلمة { إما } هي ( إن ) الشرطية و ( ما ) المؤكدة للتعليق الشرطي . وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق ، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة ( ما ) بعد ( إن ) الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب « الكشاف » في تفسير قوله تعالى : { فإما نرينّك } في سورة [ غافر : 77 ] ، فلا يقولون : إن تكرِمَنِّي أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون : إن تُكْرِمْني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال : إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول : إن تكرمني . وشذ قول الأعشى
فإما تريْنِي ولي لِمة *** فإنَّ الحوادث أودَى بها
ثم أكد التعليق الشرطي تأكيداً ثانياً بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو { مرجعهم } للاهتمام . وجملة : { إلينا مرجعهم } اسمية تفيد الدوام والثبات ، أي ذلك أمر في تصرفنا دوماً .
وجملة : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } معطوفة على جملة : { فإلينا مرجعهم } . وحرف { ثم } للتراخي الرُّتبي كما هو شأن ( ثم ) في عطفها الجمل . والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبةً من المعطوفة عليها فإن جملة : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله ، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل ، والتفصيل أهم من الإجمال .
وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد . وأما كون عذاب الآخرة حاصلاً بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره .
وقوله : { الله شهيد على ما يفعلون } خبر مستعمل في معناه الكنائي ، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئاً .
والشهيد : الشاهد ، وحقيقته : المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر ، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق .
وعبر بالمضارع في قوله : { يفعلون } للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم ، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وإما نرينك" يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب، "أو نتوفينك "قبل أن نريك ذلك فيهم، "فإلَيْنا مَرْجِعُهُمْ" يقول: فمصيرهم بكلّ حال إلينا ومنقلبهم.
"ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ على ما يَفْعَلُونَ" يقول جلّ ثناؤه: ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم جزاءهم الذي يستحقونه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "نرينك "من رؤية العين لأنها لو كانت من رؤية الإعلام لتعدى إلى مفعولين. والبعض: شيء يفصل من الكل، والبعض والقسم والجزء نظائر. والتوفي: القبض على الاستيفاء بالأمانة، لأن الروح تخرج من البدن على تمام وكمال من غير نقصان.
ومعنى الآية إن أريناك يا محمد بعض ما نعد هؤلاء الكفار من العذاب عاجلا بأن ننزل عليهم ذلك في حياتك، وإن أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك ووفاتهم، فإن ذلك لا يفوتهم، لأنه إلينا مرجعهم، والله شاهد بأعمالهم، وعالم بها، وحافظ لها، فهو يوفيهم عقاب معاصيهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإما نرينك} الآية، {إما} شرط وجوابه {فإلينا}، والرؤية في قوله {نرينك} رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر {بعض}، والإشارة بقوله {بعض الذي} إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها، ومعنى هذا الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف {ثم} ها هنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها 10، وإما هي «إن» زيدت عليها «ما» ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز.
اعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصل الكثير أيضا بعد وفاته، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر، وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم،
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: مصيرهم ومتقَلَّبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً للعين، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها، عطف على قوله {قد خسر}: {وإما نرينك} أي إراءة عظيمة قبل وفاتك {بعض الذي نعدهم} أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإلينا مرجعهم} فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}... المراد بالآية تأكيد وقوع ما وعد الله هؤلاء المشركين من العقاب في الدنيا والآخرة بشرطه فيهما لا يتخلف منهما شيء في جملتهما، سواء أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بعض القسم الأول منه وشاهده، أم توفاه قبل إراءته إياه. فإبهام الله تعالى إياه للحكمة المقتضية له في أوائل البعثة من جهة قربه أو بعده، ورؤيته صلى الله عليه وسلم له وعدم رؤيته، لا يفيدهم شيئا، وسنبين هذه الحكمة في إبهامه.
فالمعنى وإن نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم من العقاب في الدنيا فذاك، وفيه إشارة إلى أنه سيريه بعضه لا كله.
{أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ} بقبضك إلينا قبل إراءتك إياه.
{فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وعلينا حسابهم، حيث يكون القسم الثاني منه وهو عقاب الآخرة، ويجوز أن يجعل هذا جواب الشرط بقسميه، والمعنى فإلينا وحدنا يرجع أمرهم في الحالين.
{ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} بعدك أو مطلقا فيجزيهم به على علم وشهادة حق.
والمراد أنه لا فائدة لهم مما حكاه تعالى عنهم في تربصهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، واستراحتهم من دعوته، ونذره بموته، كما تراه في سورة الطور وآخر سورة طه، فالعذاب واقع ما له من دافع.
وقد ورد بمعنى هذه الآية قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77] ويليها آية بمعنى الآية التي تلي هذه ذكر فيها الرسل وكون آياتهم بإذن الله لا من كسبهم، والقضاء على أقوامهم بالهلاك بعدها، ومنها قوله بعد آية في إرسال الرسل وكون آياتهم إنما هي بإذن الله ولكل أجل كتاب: {وإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وما بعدها في معنى السياق الذي هنا. وقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41] وقبلها {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ومَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزخرف: 40] وهو بمعنى ما قبل هذه أيضا.
وقد أبهم أمر عذاب الدنيا في كل هذه الآيات وآيات أخرى، فلم يصرح بأنه سيقع بهم ما وقع بالأمم التي كذبت الرسل من قبلهم- وهو عذاب الاستئصال- لكنه أشار إليه في قوله: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 93]، أي كما هي سنتك في رسلك الأولين، وقد أجاب الله دعاءه فقال: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33].
وحكمة هذا الإبهام التخويف من جميع أنواع الوعيد، مع علمه تعالى أن عذاب الاستئصال لن يقع على قومه صلى الله عليه وسلم؛ لأن شرطه أن يجيئهم ما اقترحوا من آية كونية ويصروا بعد التكذيب ولن يقع، ولكن في آية يونس هذه إشارة إلى أن الله تعالى سيري رسوله بعد نزولها بعض الذي يعدهم لا كله، وقد أنجز له ذلك فأراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه عليهم، ونصره عليهم أعظم النصر في أول معركة هاجمه فيها رؤساؤهم وصناديدهم- وهي غزوة بدر- وفي غيرها إلى فتح عاصمتهم الكبرى أم القرى، وإكمال الدين ودخول الناس فيه أفواجا، وقد تقدم بيان ذلك كله في مواضعه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانَ ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله: {قال الكافرون إنّ هذا لسحر مبين} [يونس: 2]، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم، والإشارةُ إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله: {ولو يعجل الله للناس الشر} إلى قوله: {لننظر كيف تعملون} [يونس: 11 14] منذراً بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم، وكان معلوماً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم رأفتُه بالناس ورغبتُه أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه، فربما كان النبي يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم. وكان قوله: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} [يونس: 11] تصريحاً بإمكان استبقائهم وإيماءً إلى إمهالهم. جاء هذا الكلام بياناً لذلك وإنذاراً بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل.
وجاء الكلام على طريقة إبْهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجاء وإن كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمرادُ ب {بعض الذي نعدهم} هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك}. فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيتَه أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال.
فمضمون {أو نتوفينك} قسيم لمضمون {نرينك بعضَ الذي نعدهم}.
والجملتان معاً جملتا شرط، وجواب الشرط قوله: {فإلينا مرجعهم}.
ولما جعل جواب الشرطين إرجاعَهم إلى الله المكنَّى به عن العقاب الآجِل، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة. وأما إراءة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير.
وإنما كُني عن التعجيل بأن يريد اللّهُ الرسولَ للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه، ولذلك بُني على ضد ذلك ضدّ التعجيل فكُني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذْ كانت حكمة التعجيل هي الانتصافَ للرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما جعل مضمون جملة: {نتوفينك} قسيماً لمضمون جملة: {نرينك} تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذَاهُم له انتصاراً له حتى يكون أمره جارياً على سنة الله في المرسلين، كما قال نوح:
{رب انصرني بما كذبون} [المؤمنون: 26] وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه: {ولكل أمة رسول} [يونس: 47] الآية وقوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]. وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة، وقتل صناديدهم، كما أشار إليه قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلّم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 10 16].
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الأرض. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
وتأمَّلْ قوله: {ثم تولوا عنه} وقوله: {إنا منتقمون}.
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضاً إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة.
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازاً محكماً وصارت قوة الكلام هكذا: وإمّا نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا، أي مرجعهم ثابت إلينا دوماً فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة...
وجملة: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} معطوفة على جملة: {فإلينا مرجعهم}. وحرف {ثم} للتراخي الرُّتبي كما هو شأن (ثم) في عطفها الجمل، والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبةً من المعطوفة عليها فإن جملة: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل، والتفصيل أهم من الإجمال.
وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد. وأما كون عذاب الآخرة حاصلاً بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره.
وقوله: {الله شهيد على ما يفعلون} خبر مستعمل في معناه الكنائي، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئاً.
والشهيد: الشاهد، وحقيقته: المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق.
وعبر بالمضارع في قوله: {يفعلون} للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر.