الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ} (46)

قوله تعالى : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } : " إمَّا " هذه قد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفىً . وقال ابن عطية : " ولأجلها أي : لأجل زيادةِ " ما " جاز دخولُ النونِ الثقيلة ولو كانَتْ " إنْ " وحدَها لم يَجُزْ " يعني أن توكيد الفعل بالنونِ مشروطٌ بزيادة " ما " بعد " إنْ " ، وهو مخَالفٌ لظاهرِ كلامِ سيبويه ، وقد جاء التوكيد في الشرط بغير " إنْ " كقوله :

مَنْ نثقفَنْ منهم فليس بآيبٍ *** أبداً وقَتْل بني قتيبةَ شافي

قال ابن خروف : " أجاز سيبويهِ الإِتيانَ ب " ما " وأن لا يُؤْتى بها ، والإِتيانُ بالنون مع " ما " وأن لا يؤتى بها " والإِراءَةُ هنا من البصر ؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنين بالهمزة أي : نجعلك رائياً بعضَ الموعودين " .

قوله : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيه وجهان أظهرهما : أنه جوابٌ للشرط وما عُطف عليه ، إذ معناه صالحٌ لذلك . وإلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية . والثاني : أنه جوابٌ لقوله " أو نتوفَيَنَّك " ، وجواب الأول محذوف قال الزمخشري : " كأنه قيل : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذاك ، أو نتوفينَّك قبل أن نريك فنحن نُريك في الآخرة " . قال الشيخ : " فجعل الزمخشري في الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجةَ إلى [ تقدير ] جواب محذوف لأنَّ قولهَ " فإلينا مَرْجعهم " صالحٌ لأن يكونَ جواباً للشرط والمعطوفِ عليه ، وأيضاً فقولُ الزمخشري " فذاك " هو اسمٌ مفردٌ لا يَنْعقد منه جوابُ شرطٍ فكان ينبغي أن يأتي بجملةٍ يَصِحُّ منها جوابُ الشرط إذ لا يُفْهَمُ مِنْ قوله " فذاك " الجزء الذي حُذِف ، المتحصَّل به فائدةُ الإِسناد " . قلت : قد تقررَّ أنَّ اسمَ الإِشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر وهو بلفظِ الإِفراد ، فكأنَّ ذاك واقعٌ موقعَ الجملة الواقعة جواباً ، ويجوزُ أن يكونَ قد حُذِفَ الخبر لدلالة المعنى عليه إذ التقديرُ : فذاك المراد أو المتمنَّى أو نحوه . وقوله : " إذ لا يُفْهم الجزء الذي حُذِف " إلى آخره ممنوعٌ بل هو مفهومٌ كما رأيت ، وهي شيءٌ يَتبارد إليه الذهن .

قوله : { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } ليست هنا للترتيب الزماني بل هي لترتيبِ الأخبارِ لا لترتيبِ القصصِ في أنفسها . قال أبو البقاء : " كقولك زيدٌ عالم ثم هو كريم " . وقال الزمخشري : " فإن قلت : اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون في الدارَيْن فما معنى ثم ؟ قلت : ذُكِرَت الشهادة ، والمراد مقتضاها ونتيجتها ، وهو العقاب ، كأنه قيل : ثم الله معاقِبٌ على ما يفعلونه " .

وقرأ إبرهيم ابن أبي عبلة " ثَمَّ " بفتح الثاء جعله ظرفاً لشهادة الله ، فيكون " ثَمَّ " منصوباً ب " شهيد " أي : اللَّهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان ، وهو مكانُ حَشْرِهم . ويجوز أن يكونَ ظرفاً لمَرْجِعهم أي : فإلينا مَرْجِعُهم يعني رجوعهم في ذلك المكانِ الذي يُثاب فيه المُحْسِن ويُعاقَبُ فيه المسيءُ .