اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ} (46)

قوله : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } تقدَّم الكلامُ على " إِمَّا " هذه [ البقرة38 ] ، وقال ابن عطيَّة{[18473]} : " ولأجلها ، أي : لأجلِ زيادةِ " ما " ، جاز دخولُ النون الثقيلة ، ولو كانت " إِنْ " وحدها لم يَجُزْ " أي : إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة " ما " بعد " إنْ " ، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه ، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير " إنْ " ؛ كقوله : [ الكامل ]

مَنْ نَثْقَفَنْ مِنهُمْ فليْسَ بآيبٍ *** أبَداً وقَتْلُ بَنِي قُتَيبةَ شَافِي{[18474]}

قال ابن خروف : أجاز سيبويه : الإتيان ب " ما " ، وألاَّ يؤتى بها ، والإتيانُ بالنون مع " ما " ، وألاَّ يؤتى بها ، والإراءَةُ هنا بصريَّة ؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنينِ بالهمزة ، أي : نجعلك رائياً بعض الموعُودين ، أو بمعنى : الذي نعدُهم من العذاب ، أو نتوفَّيَنَّكَ قبل أن نُريكَ ذلك ، فإنَّك ستراه في الآخرة .

قال مجاهد : فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر ، وسائر أنواع العذاب بعد موته{[18475]} .

قوله : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنَّه جوابٌ للشَّرطِ ، وما عُطِفَ عليه ، إذ معناه صالحٌ لذلك ، وإلى هذا ذهب الحوفيُّ ، وابنُ عطيَّة .

والثاني : أنَّهُ جوابٌ لقوله : " أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ " ، وجواب الأول محذُوف .

قال الزمخشري : " كأنَّه قيل : وإمَّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم فذاك ، أو نتوفَّينَّك قبل أن نُريك ، فنحن نُريك في الآخرة " .

قال أبو حيَّان : " فجعل الزمخشريُّ في الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ؛ لأنَّ قوله : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } صالحٌ لأن يكون جواباً للشَّرطِ ، والمعطوف عليه ، وأيضاً : فقول الزمخشريّ : " فذاك " هو اسمٌ مفردٌ ، لا ينعقدُ منه جوابُ شرطٍ ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهمُ من قوله : " فَذَاكَ " الجزء الذي حذف ، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد " .

قال شهاب الدِّين : " قد تقرَّر : أنَّ اسم الإشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر ، وهو بلفظِ الإفراد ؛ فكأنَّ ، ذاكَ واقعٌ موقع الجملة الواقعة جواباً ، ويجُوزُ أن يكون قد حُذف الخبرُ ؛ لدلالةِ المعنى عليه ، إذ التَّقديرُ : فذاك المرادُ ، أو المتمنَّى ، أو نحوه " .

وقوله : " إذْ لا يُفْهم الجزء الذي حذف " إلى آخره ، ممنوعٌ ، بل هو مفهومٌ كما بينا ؛ وهو شيءٌ يتبادر إلى الذِّهن .

قوله : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } " ثم " ليست هنا للتَّرتيب الزَّماني ، بل هي لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها ، قال أبو البقاء : " كقولك : زيدٌ عالمٌ ، ثم هو كريم " .

وقال الزمخشريُّ : " فإن قلت : الله شهيدٌ على ما يفعلُون في الدَّاريْن ، فما معنى " ثم " ؟ .

قلت : ذكرت الشهادة ، والمراد : مقتضاها ، ونتيجتها ، وهو العقاب ؛ كأنَّه قيل : ثم الله معاقبٌ على ما يفعلون " .

وقرأ إبراهيم{[18476]} بن أبي عبلة : " ثَمَّ " بفتح الثاء ، جعله ظرفاً لشهادة الله ؛ فيكون " ثَمَّ " منصوباً ب " شَهِيدٌ " أي : اللهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان ، وهو مكانُ حشرهم ، ويجوز أن يكون ظرفاً لِ " مَرْجعُهم " أي : فإليْنَا مرْجِعُهم ، يعني : رجوعهم في ذلك المكانِ ، الذي يُثَاب فيه المُحْسِن ، ويعاقبُ فيه المُسيء .


[18473]:ينظر: المحرر الوجيز 3/123.
[18474]:تقدم.
[18475]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/356).
[18476]:ينظر: الكشاف 2/350، البحر المحيط 5/164، الدر المصون 4/39.