وكأنما تسكن العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية ؛ وتنصت الجموع المحشودة المحشورة ، وتخفت كل حركة وكل نأمة ، ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين ، لا يتلفتون ولا يتخلفون - وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون - ويعبر عن استسلامهم بأنهم ( يتبعون الداعي لا عوج له )تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا عوج فيها ولا نتوء !
ثم يخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) . . ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) . .
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله ، وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع . فالكلام همس . والسؤال تخافت . والخشوع ضاف . والوجوه عانية . وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلال الرزين .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمََنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً } .
يقول تعالى ذكره : يومئذٍ يتبع الناس صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، فيحشرهم إليه لا عِوَجَ لَهُ يقول : لا عوج لهم عنه ولا انحراف ، ولكنهم سراعا إليه ينحشرون . وقيل : لا عوج له ، والمعنى : لا عوج لهم عنه ، لأن معنى الكلام ما ذكرنا من أنه لا يعوجون له ولا عنه . ولكنهم يؤمونه ويأتونه ، كما يقال في الكلام : دعاني فلان دعوة لا عوج لي عنها : أي لا أعوج عنها . وقوله " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ " يقول تعالى ذكره : وسكنت أصوات الخلائق للرحمن فوصف الأصوات بالخشوع . والمعنى لأهلها إنهم خُضّع جميعهم لربهم ، فلا تسمع لناطق منهم منطقا إلاّ من أذن له الرحمن ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ " يقول : سكنت .
وقوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : إنه وطء الأقدام إلى المحشر . وأصله : الصوت الخفيّ ، يقال همس فلان إلى فلان بحديثه إذا أسرّه إليه وأخفاه ومنه قول الراجز :
وَهُنّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
يعني بالهمس : صوت أخفاف الإبل في سيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : وطء الأقدام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يعني : همس الأقدام ، وهو الوطء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : الصوت الخفيّ .
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : وطء الأقدام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : همس الأقدام .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قادة فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا قال قتادة : كان الحسن يقول : وقع أقدام القوم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : تهافتا ، وقال : تخافت الكلام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هَمْسا قال : خفض الصوت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : خفض الصوت ، قال : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه ولسانه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : لا تسمع إلاّ مشيا ، قال : المشي الهمس : وطء الأقدام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.