89- إنكم تودُّون هداية هؤلاء المنافقين ، وهم يودون أن تكفروا مثلهم فتكونوا متساوين في الكفر معهم ، وإذا كانوا كذلك فلا تتخذوا منهم نصراء لكم ، ولا تعتبروهم منكم ، حتى يخرجوا مهاجرين ومجاهدين في سبيل الإسلام . وبذلك تزول عنهم صفة النفاق ، فإن أعرضوا عن ذلك وانضموا إلى أعدائكم فاقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تعتبروهم منكم ولا تتخذوا منهم نصراء .
ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين . . إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب ؛ ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب . . إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين :
( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) . .
إنهم قد كفروا . . على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون ، ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين . . وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد . فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين . ولا بد له من عمل وسعي ، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر . ليكونوا كلهم سواء .
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين . . وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ؛ ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين . وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان ، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق :
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم ، وهو يقول لهم :
( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) . .
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر . وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم ، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية . . ثم في الإسلام . وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم ، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام ؛ فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد ، نحو القمة السامقة .
ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة ؛ فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء :
( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرًا ) . .
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم . . أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ؛ ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها . كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته .
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة ، أو روابط الدم والقرابة . أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة ، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة . . إنما تقوم الأمة على العقيدة ؛ وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة .
ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام ، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب . . ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول . . لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام ؛ وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله . من أجل عقيدتهم ، لا من أجل أي هدف آخر ؛ ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر . . بهذه النصاعة . وبهذا الحسم . وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى ، أو مصالح أخرى ، أو أهداف أخرى . .
فإن هم فعلوا . فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم . . في دار الحرب . . وهاجروا إلى دار الإسلام ، ليعيشوا بالنظام الإسلامي ، المنبثق من العقيدة الإسلامية ، القائم على الشريعة الإسلامية . . إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم ، مواطنون في الأمة المسلمة . وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة ، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال :
فإن تولوا فخذوهم [ أي أسرى ] واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرًا .
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا ، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة . إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى .
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له ؛ فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته . ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام . في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين . فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا ! وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته . وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم ؛ وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام ؛ وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام .
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة . . ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال . لا يتسامح مع من يقولون : إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله . ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية ، كالحاكمية والتشريع للناس ؛ فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون ، لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم . . لا لأنهم عبدوهم . ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال ، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم !
ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون . لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . ثم بقوا في دار الكفر ، يناصرون أعداء المسلمين !
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا . إنما هو تميع . والإسلام عقيدة التسامح . ولكنه ليس عقيدة " التميع " . إنه تصور جاد . ونظام جاد . والجد لا ينافي التسامح . ولكنه ينافي التميع .
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى ، بيان ، وبلاغ . .
{ وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُوا } : تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم وتصديق نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، { كما كَفَرُوا } يقوله : كما جحدوا هم ذلك . { فَتَكُونُونَ سَوَاءً } يقول : فتكونون كفارا مثلهم ، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله . { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } يقول : حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون إلى دار الإسلام وأهلها { في سَبِيل الله } يعني في ابتغاء دين الله ، وهو سبيله ، فيصيروا عند ذلك مثلكم ، ويكون لهم حينئذ حكمكم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا } يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم ، يعني : الهجرة في سبيل الله .
القول في تأويل قوله : { فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا وَلا نَصِيرا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله ، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ، ومن الكفر إلى الإسلام ، فخذوهم أيها المؤمنون ، واقتلوهم حيث وجدتموهم من بلادهم وغير بلادهم ، أين أصبتموهم من أرض الله . { ولا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا } يقوله : ولا تتخذوا منهم خليلاً يواليكم على أموركم ، ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم ، فإنهم كفار لا يألونكم خبالاً ، ودّوا ما عنتّم . وهذا الخبر من الله جلّ ثناؤه إبانة عن صحة نفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم ، وتحذير لمن دافع عنهم عن المدافعة عنهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فإنْ تَوَلّوْا فخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } : فإن تولوا عن الهجرة فخذوهم واقتلوهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } يقول : إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم .