الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا} (89)

قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ . . . } [ النساء :88 ] .

واختلف في هؤُلاَءِ المنافِقِينَ ، فقال ابنُ عَبَّاس : هم قومٌ كانوا بمَكَّة أظهروا الإيمانَ لأصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كُتُبٍ بَعَثُوا بِهَا إلى المدينةِ ، ثم خَرَجُوا مسافِرِينَ إلى الشَّام ، وأعطَتْهم قريشٌ بِضَاعَاتٍ ، وقالوا لهم : أنتم لا تَخَافُونَ أصْحَاب محمَّد ، لأَنَّكُمْ تخدَعُونَهم بإِظْهَار الإِيمانِ ، فاتصل خبرُهُمْ بالمدينَةِ ، فاختلف المؤمنُونَ فيهم ، فقالَتْ فرقةٌ : نَخْرُجُ إلَيْهم ، فإنهم منافقونَ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ ، لاَ سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ ، فنزلَتِ الآية ، وعن مجاهدٍ نحوه .

قال ( ع ) : ويَعْضُدُهُ ما في آخر الآيةِ مِنْ قوله تعالى : { حتى يُهَاجِرُواْ }[ النساء :89 ] وقال زيدُ بنُ ثابتٍ : نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ أُبيٍّ ، وأصحابِهِ المنافِقِينَ ، الذين رجَعُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ ، وهو في «صحيحِ البخاريِّ » مسنداً ؛ قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه » : وهذا القولُ هو اختيار البخاريِّ ، والترمذيِّ انتهى .

قال ( ع ) : وعلى هذا ، فقولُه سبحانَهُ : { حتى يُهَاجِرُواْ } المرادُ هَجْرُ ما نَهَى اللَّهُ عنه ، كما قال عليه السلام : ( والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عَنْه ) ، و{ فِئَتَيْنِ } : معناه : فرقَتَيْنِ ، و{ أَرْكَسَهُمْ } : معناه أرجعَهُمْ في كُفْرِهِمْ وضَلاَلِهِمْ ، والرِّكْس : الرَّجيع ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الرَّوْثَةِ : ( إنَّهَا رِكْسٌ ) ، وحكى النضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، والكِسَائِيُّ : رَكَسَ وأَرْكَسَ بمعنًى واحدٍ ، أي : أرجَعَهم ، ومَنْ قال مِنَ المتأوِّلين : أَهْلَكَهم أو أضلَّهم ، فإنَّما هو بالمعنى ، وباقي الآية بَيِّنٌ .

قال ( ص ) : { أَرْكَسَهُمْ } ، أي : رَدَّهم في الكُفْر .

وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه » : أَخْبَرَ اللَّه تعالى أنه رَدَّ المنافِقِينَ إلى الكُفْر ، وهو الإركَاسُ ، وهو عبارةٌ عن الرجُوعِ إلى الحالَةِ المكروهَةِ ، كما قال في الرَّوْثَةِ : «إنَّهَا رِكْسٌ » ، أيْ : رجَعَتْ إلى حالةٍ مكروهةٍ ، فنَهَى اللَّه سبحانَهُ الصحابَةَ أنْ يتعلَّقوا فيهم بظَاهِرِ الإِيمان ، إذ كان باطنهم الكُفْرَ ، وأمرهم بقَتْلهم ، حَيْثُ وجَدُوهُم ، انتهى .