محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا} (89)

( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا89 ) .

( ودوا لو تكفرون كما كفروا ) كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم ، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم . أي : تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان ( فتكونون سواء ) أي : في الكفر والضلال ( فلا تتخذوا منهم أولياء ) في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفرهم ، وان أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم ( حتى يهاجروا ) من دار الكفر ( في سبيل الله ) فتتحققوا ايمانهم ( فان تولوا ) أي عن الهجرة . فهم ، وان أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة ، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار . لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر ( فخذوهم ) أي : اتسروهم{[2065]} -واقتلوهم حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ( ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) أي : لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك .

/ تنبيهان

الأول : قال الرازي : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد وهذا متأكد بعموم قوله تعالى{[2066]} : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) . والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة . وإذا كان كذلك ، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة . وإذا كان كذلك ، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه . والله أعلم .

الثاني : يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول الآيات أعني قوله تعالى : ( فما لكم في المنافقين ) . الخ ، رواية عبد الرحمان بن عوف . كما يدل عليه سبر هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان . وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايمي في ( تفسيره ) . فاقتصر على هذا الوجه فقال : وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة . فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين . انتهى . وقول السيوطي : في إسناد رواية عبد الرحمان بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع –لا يقدح في اصابتها كبد الحقيقة ، لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف .

وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم . لا أن ما وقع كان سببا لنزولها . واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة . وإلا لأشكل قوله تعالى : ( إلا أن يهاجروا ) . إذ لم تطلب المهاجرة الا من النائين عن المدينة . وأولئك ، أعني الذين انحرفوا عن المسلمين في أحد ، كانوا بها . فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، صابرين محتسبين مخلصين . كما قاله بعض المفسرين . وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة . ولأشكل أيضا قوله تعالى : ( فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ) . فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة . وانه يتوقع الظفر بهم . وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا . فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف . وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال : " انها طيبة وانها تنفي الخبث " . اشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد اسلامهم . والله أعلم .


[2065]:افتعل من (يسر) والمراد ائسروهم. كذا قاله الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.
[2066]:|60/ الممتحنة/ 1|.