اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا} (89)

قوله - تعالى - : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ } الآية .

يجوز في " لو " وجهان :

أحدهما : أن تكون مصدريَّة .

والثاني : أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوُقُوعِ غيره .

فعلى الأوَّل : تتقدَّر مع ما بعدها بمصدر ، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل " ودوا " وحينئذٍ فلا جَوَابَ لها ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكُم .

وعلى الثاني : يكون مَفْعُولُ " وَدَّ " مَحْذُوفاً ، وجوابُ " لو " أيْضاً محذوف ؛ لدلالة المَعْنَى عليهما ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكم ، لو تَكْفُرون كما كَفَرُوا لسُرُّوا بذلك .

و " كما كفروا " : نعتٌ لمَصْدَر محذوف ، تقديره : كُفراً مثل كُفْرِهم ، أو حالٌ من ضَمِير ذلك المَصْدر كما هو مَذْهَب سيبويْه{[9146]} .

و " فتكونوا " : عطف على " تكفرون " والتقدير : وَدُّوا كفرَكُم ، وكونكم مُسْتَوين معهم في شَرْعِهم ؛ كقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ، أي : ودُّوا لو تُدْهنون ، والفَاءُ عَاطِفَة .

قال الزَّمَخشَريّ{[9147]} : " ولو نُصِب على جَوَاب التَّمَنِّي ؛ لجاز " قال أبو حيَّان{[9148]} : فيه نظر : من حَيْث إن النَّصْبَ في جواب التَّمَنِّي إذا كان التَّمَنِّي بلفظ الفِعْل ، يحتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، بل لو جَاءَ ، لم تتحقَّقَ فيه الجَوابِيةُ ، لأنَّ " ودَّ " التي بِمَعْنَى التمني ، متعلِّقُها المصادر لا الذَّوَات ، فإذا نُصِب الفِعْل بعد الفَاءِ ، لم يَتَعَيَّنْ أن تكون فَاءَ جواب ؛ لاحتمال أن يَكُون من بَابِ عَطْف المَصْدر المقدَّر على المَصْدَر المَلْفُوظ به ، فيكون من بَابِ : [ الوافر ]

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي *** . . . {[9149]}

يعني : كَأنَّ المَصْدَر المَفْعُولَ ب " يود " ملْفُوظٌ به ، والمصدرُ المقدَّرُ ب " أن " والفِعْلِ ، وإلاَّ فالمصْدرُ المَحْذُوفُ ليس مَلْفوظاً به ، إلا بِهَذَا التَّأويلِ المذكُورِ ، بل المَنْقُولُ أنَّ الفِعلَ ينْتَصِبُ على جَوَابِ التَّمنِّي ، إذا كان بالحَرْفِ ، نحو : " ليت " ، و " لو " و " ألا " إذا أشْرِبتا مَعْنَى التَّمنِّي .

وفيما قاله أبُو حَيَّان نظر ؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ لم يَعْنِ ب " التمني " المفهوم من فِعْل الودادة ، بل المَفْهُومَ من لفظ " لو " المُشعرةِ بالتمني ، وقد جاء النَّصْب في جوابها ؛ كقوله : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] ، وقد قدَّمْتُ تَحْقِيقَ هذه المَسْألَةِ ، فظهر قول الزَّمَخْشَرِي من غير توقُّفٍ ، و " سواء " : خبر " تكونون " وهو في الأصْل مَصْدرٌ واقعٌ مَوْقعَ اسْمِ الفَاعِلِ ، بمعنى مُستوين ؛ ولذلِك وُحِّد ، نحو : " رجال عدل " .

لمَّا اسْتَعْظَم قولهم : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } على سَبِيل الإنْكَارِ عَقب ذِكْر الاسْتبعاد{[9150]} ، بأن قال : إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم{[9151]} يَتَمنُّون أن تَصِيرُوا أيُّها المُسْلِمُون كُفَّاراً ، فلما بَلَغُوا في تعصُّبهم{[9152]} في الكُفْر إلى هذا الحَدّ ، فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم .

ثم قال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } مَعَكُم .

قال عكرمة : هي هِجْرة أخرى{[9153]} والهِجْرة على ثَلاثَةِ أوْجُه :

هجرة المُؤمنين في أوَّل الإسْلام ، وهي قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] وقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ونحوهما .

وهجرة المؤمنين{[9154]} وهي الخُرُوجُ في سَبِيلِ اللَّهِ مع رسُول الله صَابِراً محتَسِباً ، كما حكى هَهُنَا ، مَنَعَ من مُوالاتهم حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيل اللَّه .

وهجرة سَائر المُؤمنين : وهي ما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " المُهَاجِر من هجر مَا نَهَى اللَّه عَنْه " {[9155]} .

قال أبو بكر الرَّازِي{[9156]} : التقدير : حتى يُسْلِمُوا ويُهَاجِرُوا ؛ لأن الهِجْرَة في سَبِيل الله لا تكون إلا بَعْد الإسْلاَم ، فدلَّت الآيَةُ على إيجَاب الهِجْرة بعد الإسْلام ، وأنَّهم وإن أسلَمُوا لَمْ يكُن بينَنَا وبَيْنَهم موالاةٌ إلا بَعْد الهِجْرَة ؛ لقوله - [ تعالى ]{[9157]} - : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنَا بَرِيءٌ من كل مُسْلِم أقَامَ بَيْن أظْهُر المُشْرِكِين " وهذا التَّكْلِيفُ إنَّما كان لازِماً حَيْث كانَت الهِجْرة وَاجِبَةٌ مَفْروضة ، فلمَّا فتحت مَكَّة ، نُسِخ ذلك ، قال رسُول الله صلى الله يوم فتح مكة : " لا هِجْرَة [ وَاجِبَة مَفْرُوضة ]{[9158]} بعد الفَتْح ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ " {[9159]} .

ورُوي عن الحَسَن : أن حُكْم الآيَة ثَابِتٌ [ في كُلِّ ]{[9160]} من أقَام في دَارِ الحَرْب{[9161]} .

قال ابن الخَطِيب{[9162]} : الهِجْرَة تحصل تارةً بالانْتِقَالِ من دَارِ الكُفْرِ إلى دَارِ الإسْلام ، وأخْرَى تَحْصُل بالانْتِقَال عن أعْمَال الكُفَّار إلى أعْمَال المُسْلِمِين ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " المُهَاجِر مَنْ هجر ما نَهَى اللَّهُ عَنْهُ " وقال المُحَقِّقُون{[9163]} : الهِجْرة في سَبِيل اللَّه عِبَارة عن الهِجْرة عن{[9164]} تَرْك منهيَّاته وفِعْل مأموراته ، والآية عامَّة في الكُلِّ ، وقَيَّدَ الهجرة بِكَوْنِها في سَبِيلِ اللَّه ؛ لأنه رُبَّمَا كَانَت الهِجْرَة لِغَرض من أغْرَاض الدُّنْيَا فلا تكُونُ مُعْتَبَرة .

قال القُرْطُبِي{[9165]} : والهِجْرة أنْوَاع : منها الهِجْرة إلى المَدِينَة ؛ لنُصرة النَّبي صلى الله عليه وسلم في الغَزَوات ، وكانت هذه وَاجِبَة أوَّل الإسْلام ، حتى قال : " لا هِجْرَة بعد الفَتْح " وكذلك هِجْرَة المُنَافِقِين مع النبي صلى الله عليه وسلم [ وهجرة مَنْ أسْلم في دَارِ الحرب فإنها وَاجِبَة ، وهجرة المسلم ما حَرَّم الله عَلَيْه ]{[9166]} كما قال - عليه السلام - : " والمُهَاجِر مَنْ هَجَر مَا حَرَّم اللَّه عليه " وهاتان الهِجْرَتان ثابتَتَان الآن ، وهجرة أهْل المَعَاصِي ؛ ليرجعوا عمَّا هُم عليه تأدِيباً لهم ، فلا يُكَلَّمُون ولا يُخَاطَبُون ولا يُخَالطون حتى يَتُوبُوا ؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع كَعْب وصاحِبَيْه .

قوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : فإن أعْرَضُوا عن التَّوْحيد والهجْرَة " فخذوهم " إذا قَدَرْتُم عليهم أسَارَى ، ومنه يُقَال للأسِير : أخيذٌُ ، { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحِلِّ والحَرَم { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ } في هذه الحَالِ " ولياً " يتولى شَيْئاً من مُهماتكم " ولا نصيراً " لينصركم على أعْدَائِكُم ، ثم استَثْنَى منهم وهو قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } .


[9146]:ينظر: الكتاب 1/116.
[9147]:ينظر: الكشاف 1/546.
[9148]:ينظر: البحر المحيط 3/327.
[9149]:تقدم برقم 762.
[9150]:في أ: الابتعاد.
[9151]:في أ: بأنهم.
[9152]:في أ: بغضهم.
[9153]:في أ: الحزي.
[9154]:في أ: المنافقين.
[9155]:تقدم.
[9156]:ينظر: تفسير الرازي 10/176.
[9157]:سقط في أ.
[9158]:سقط في ب.
[9159]:أخرجه البخاري 6/45 في الجهاد: باب وجوب النفير (2825)، ومسلم 2/986 كتاب الحج باب تحريم مكة (445 ـ 1353).
[9160]:سقط في ب.
[9161]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/25) عن الحسن.
[9162]:ينظر: تفسير الرازي 10/176.
[9163]:ينظر: السابق.
[9164]:في ب: من.
[9165]:ينظر: تفسير القرطبي 5/198.
[9166]:سقط في أ.