وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي : العذاب ، يحتمل أن المراد به : الطاعون ، كما قاله كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، فإنها رجز وعذاب ، وأنهم كلما أصابهم واحد منها
قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ أي : تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده من الوحي والشرع ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وهم في ذلك كذبة ، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب ، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره .
{ الرجز } العذاب ، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هاهنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره ، وقال قوم من المفسرين : الإشارة هنا بالرجز إنما هي إلى طاعون أنزله فيهم مات منهم في ليلة واحدة سبعون ألف قبطي ، وروي في ذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا كبشاً وُيَضِّمخوا أبوابهم بالدم ليكون ذلك فرقاً بينهم وبين القبط في نزول العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وهذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت ، وقولهم : { بما عهد } يريدون بذمامك وماَّتِتك إليه ، فهي تعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى ، ويحتمل أن يكون المعنى ادع لنا ربك ماتّاً إليه بما عهد إليك ، ويحتمل إن كان شعر أن بين الله تعالى وبين موسى في أمرهم عهد ما أن تكون الإشارة إليه ، والأول أعم وألزم ، والآخر يحتاج إلى رواية وقولهم : { لئن كشفت } أي بدعائك { لنؤمنن ولنرسلن } قسم وجوابه ، وهذا عهد من فرعون وملئه الذين إليهم الحل والعقد ، ولهم ضمير الجمع في قوله { لنؤمنن } ، وألفاظ هذه الآية تعطي الفرق بين القبط وبين بني إسرائيل في رسالة موسى ، لأنه لو كان إيمانهم به على أحد إيمان بني إسرائيل لما أرسلوا بني إسرائيل ولا فارقوا دينهم ، بل كانوا يشاركون فيه بني إسرائيل ، وروي أنه لما انكشف العذاب قال فرعون لموسى اذهب ببني إسرائيل حيث شئت فخالفه بعض ملئه فرجع فنكث .
وأخبر الله عز وجل أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم الذي أعطوه موسى . و { إذا } هاهنا للمفاجأة ، و { إلى } متعلقة ب { كشفنا } و «الأجل » يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت . وهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : «الأجل » هنا الغرق .
قال القاضي أبو محمد : وإنما هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أن الإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق ، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وهم ممن أخر وكشف عنهم العذاب إلى أجل بلغه ، ودخل في هذه الآية فأين الغرق من هؤلاء ؟ وأين هو ممن بقي بمصر ولم يغرق ؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً ، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعداً ما وقرأ أبوالبرهشم وأبو حيوة : «ينكِثون » بكسر الكاف ، والنكث نقض ما أبرم ، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني ، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير «الرُّجز » بضم الراء في جميع القرآن ، قال أبو حاتم : إلا أن ابن محيصن كسر حرفين «رجز الشيطان » «والرجز فاهجر » .
قال القاضي أبو محمد : رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه .
الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } إلى قوله { آيات مفصّلات } [ الأعراف : 133 ] والرجز من أسماء الطاعون ، وقد تقدم عند قولهم تعالى : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء } في سورة البقرة ( 59 ) ، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه السلام ، فطُوي ذكره للإيجاز ، فالتقدير : وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم الخ . . . وإنما لم يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله : { فأرسلنا عليهم الطوفان } [ الأعراف : 133 ] الآية تخصيصاً له بالذكر لأن له نبأ عجيباً فإنه كان ملجئَهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى .
وهذا الطاعون هو المَوَتانُ الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج « هكذا يقول الرب إني أخرج نحوَ نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعونَ الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلْف الرحى وكل بكر بهيمة ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر فقام فرعون ليلاً هو وعبيدُه وجميع المصريين فدعَا موسى وهارونَ ليْلاً وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني » الخ . . . قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة ، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء .
وليس قولهم : { ادع لنا ربك } بإيمان بالله ورسالة موسى ، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم ، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة . وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده ، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم ، كما حكت التوراة في الإصحاح الثاني عشر عن فرعون ، « فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم » وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير ( الميثولوجيا ) اليونانية ، وقصة الياذة ( هُومَيْروس ) ، فبدَا لفرعون أن وَجْه الفصْل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال { ربك } ولم يقل ربنا .
وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد ، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا ، كما دل عليه قوله بعدُ { لئن كشفت عنا الرجز } ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون ( واذهبوا وباركوني أيضاً ) .
وقد انبرم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له { بما عهد عندك } ، أي : بما عرفك وأودع عندك من الأسرار ، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة .
والباء في { بما عهد عندك } لتعدية فعل الدعاء . و ( ما ) موصولة مبهمة ، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك ، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثاً من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة .
وجملة { لَئن كشفتَ عنا الرجز } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقيّة كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول : فما الجزاء على ذلك .
واللام موطئة للقسم ، وجملة : { لنؤمنّن } جواب القسم .
ووعدُهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر ، وليس وعداً باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه السلام ، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقاً بموسى لا باسم الله ، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه ، كما دل عليه قوله : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } وقد وضحوا مرادهم بقولهم : { ولنرسلن معك بني إسرائيل } .