159- وأولئك الذين أنكروا عليكم أمر دينكم فريقان : فريق من أهل الكتاب الذين يعرفون الحق ويخفونه على علم وعناد ، وفريق المشركين الذين عميت قلوبهم عن الحق ، فاتخذوا أرباباً من دون الله ، فأهل الكتاب الذين عرفوا براهين صدقك تبينوا الحق في دينك ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها عن الناس ، أولئك يصب الله عليهم غضبه ويبعدهم عن رحمته ، ويدعو عليهم الداعون من الملائكة ومؤمني الثقلين - الجن والإنس - بالطرد من رحمة الله .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب ، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته ، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له ، { وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم ، ويتبين به طريق أهل النعيم ، من طريق أهل الجحيم ، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم ، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه ، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين ، كتم ما أنزل الله ، والغش لعباد الله ، فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي : يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته .
{ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة ، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة ، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم ، وإبعادهم من رحمة الله ، فجوزوا من جنس عملهم ، كما أن معلم الناس الخير ، يصلي الله عليه وملائكته ، حتى الحوت في جوف الماء ، لسعيه في مصلحة الخلق ، وإصلاح أديانهم ، وقربهم من رحمة الله ، فجوزي من جنس عمله ، فالكاتم لما أنزل الله ، مضاد لأمر الله ، مشاق لله ، يبين الله الآيات للناس ويوضحها ، وهذا يطمسها{[114]} فهذا عليه هذا الوعيد الشديد .
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله - تعالى - لعباده في كتبه ، التي أنزلها على رسله .
قال{[3006]} أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب ، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم{[3007]} . يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء ، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فهؤلاء{[3008]} بخلاف العلماء [ الذين يكتمون ]{[3009]} فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا ، عن أبي هريرة ، وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سُئِل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار " {[3010]} . والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية{[3011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمار بن محمد ، عن ليث بن أبي سليم ، عن{[3012]} المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عُمَر{[3013]} عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فقال : " إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فيسمع كل{[3014]} دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني : دواب الأرض " {[3015]} .
[ ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به ]{[3016]} .
وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس . وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت البهائم : هذا من أجل عُصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم .
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني تلعنهم ملائكة الله ، والمؤمنون .
[ وقد جاء في الحديث ، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ، وجاء في هذه الآية : أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون ، واللاعنون أيضًا ، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ، أو يوم القيامة ، والله أعلم ]{[3017]} .
{ إن الذين يكتمون } كأحبار اليهود . { ما أنزلنا من البينات } كالآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم . { والهدى } وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإيمان به . { من بعد ما بيناه للناس } لخصناه . { في الكتاب } في التوراة . { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( 159 )
وقوله تعالى { إن الذين يكتمون } الآية ، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الطبري : «وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت ، وتتناول الآية بعد كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ( {[1470]} ) ، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه .
وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً ( {[1471]} ) . وقد ترك أبو هريرة ذلك( {[1472]} ) حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ( {[1473]} ) .
وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله : لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه «( {[1474]} ) ، ومن روى في كلام عثمان " لولا أنه في كتاب الله " فالمعنى غير هذا .
و { البينات والهدى } : أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير ، وقرأ طلحة بن مصرف » من بعد ما بينه «على الإفراد ، و { في الكتاب } يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية ، وقد تقدم معنى اللعنة .
واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع : الملائكة والمؤمنون ، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام( {[1475]} ) ، وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم( {[1476]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال
{ رأيتهم لي ساجدين }( {[1477]} ) [ يوسف : 4 ] ، وقال البراء بن عازب { اللاعنون } كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع »( {[1478]} ) ، وقال ابن مسعود : المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود »( {[1479]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال الثلاثة( {[1480]} ) لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر .