وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي : صل به في سائر أوقاته . { نَافِلَةً لَكَ } أي : لتكون صلاة الليل زيادة لك في علو القدر ، ورفع الدرجات ، بخلاف غيرك ، فإنها تكون كفارة لسيئاته .
ويحتمل أن يكون المعنى : أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين ، بخلاف صلاة الليل ، فإنها فرض عليك بالخصوص ، ولكرامتك على الله ، أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك ، وليكثر ثوابك ، وتنال بذلك المقام المحمود ، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، مقام الشفاعة العظمى ، حين يتشفع الخلائق بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها ، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ، ليرحمهم الله من هول الموقف وكربه ، فيشفع عند ربه فيشفعه ، ويقيمه مقامًا يغبطه به الأولون والآخرون ، وتكون له المنة على جميع الخلق .
وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال : " صلاة الليل " {[17721]} .
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد : ما كان بعد نوم . قاله علقمة ، والأسود وإبراهيم النخعي ، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب . وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يتهجد بعد نومه ، عن ابن عباس ، وعائشة ، وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في موضعه{[17722]} ، ولله الحمد والمنة .
وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء . ويحمل{[17723]} على ما بعد النوم .
واختلف في معنى قوله : { نَافِلَةً لَكَ } فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة . رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي ، رحمه الله ، واختاره ابن جرير .
وقيل : إنما جعل قيام الليل{[17724]} في حقه نافلة على الخصوص ؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه ، قاله مجاهد ، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه{[17725]} .
وقوله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } أي : افعل هذا الذي أمرتك به ، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم ، تبارك وتعالى .
قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن{[17726]} أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عُراة كما خلقوا قيامًا ، لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول : " لبيك وسعدَيك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيْت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت " . فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل{[17727]} {[17728]} .
ثم رواه عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به{[17729]} . وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، به{[17730]} .
وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة . وكذا قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد . وقاله الحسن البصري .
وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض{[17731]} ، وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }
قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا تشريفات [ يوم القيامة ]{[17732]} لا يشركه فيها{[17733]} أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض{[17734]} ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دُونَه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : " لست لها " حتى يأتوا إلى محمد{[17735]} صلى الله عليه وسلم فيقول : " أنا لها ، أنا لها " كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع ، إن شاء الله تعالى . ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار ، فيردون عنها . وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته . وهو أول شفيع في الجنة ، كما ثبت في صحيح مسلم . وفي حديث الصور : أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم . ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم . وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة ، لا تليق إلا له . وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة{[17736]} شفع{[17737]} الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم{[17738]} إلا الله ، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك . وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب " السيرة " في باب الخصائص ، ولله الحمد والمنة .
ولنذكر الآن{[17739]} الأحاديث الواردة في المقام المحمود ، وبالله المستعان :
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، سمعت ابن عمر [ يقول ]{[17740]} : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا{[17741]} .
ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا{[17742]} شعيب بن الليث ، حدثنى{[17743]} الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ{[17744]} العَرَقُ نصفَ الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا{[17745]} بآدم ، فيقول : لست صاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق{[17746]} ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا " . [ يحمده أهل الجنة كلهم ]{[17747]} .
وهكذا رواه البخاري في " الزكاة " عن يحيى بن بُكَيْر ، وعبد الله بن صالح ، كلاهما عن الليث بن سعد ، به{[17748]} ، وزاد " فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا ، بحمده أهل الجمع كلهم " .
قال البخاري : وحدثنا علي بن عَيَّاش ، حدثنا شعيب بن أبي حَمْزة ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم{[17749]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فَخْر " {[17750]} .
وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عَمْرو العَقَديّ ، وقال : " حسن صحيح " . وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به . وقد قدمنا في حديث : " أبي بن كعب " في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره : " فقلت : اللهم ، اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق ، حتى إبراهيم عليه السلام " {[17751]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجتمع{[17752]} المؤمنون يوم القيامة ، فيلهمون ذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، فأراحنا من مكاننا هذا . فيأتون آدم فيقولون : يا آدم ، أنت أبو{[17753]} البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كلّ شيء ، فاشفع لنا إلى ربك{[17754]} حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول لهم آدم : لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه ، عز وجل ، من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحًا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . فيأتون نوحًا فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئة{[17755]} سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى ، عبدًا كلمه الله ، وأعطاه التوراة . فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس{[17756]} فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني " . قال الحسن هذا الحرف{[17757]} : " فأقوم فأمشي بين سِماطين من المؤمنين " . قال أنس : " حتى أستأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني " . قال : " ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم الجنة " : " ثم{[17758]} أعود{[17759]} إليه الثانية ، فإذا رأيت ربي وقعت{[17760]} - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود في الثالثة ؛ فإذا رأيت ربي وقعت - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة . ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ، ما بقي إلا من حبسه القرآن " . فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فيخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " .
أخرجاه [ في الصحيح ]{[17761]} من حديث سعيد ، به{[17762]} وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله{[17763]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى ، عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال : يجتمعون إليك - ويَدْعُون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ، لغمّ{[17764]} ما هم فيه ، فالخلق مُلجَمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكْمَة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش ، فلقي ما لم يلق مَلَك مصطفى ولا نبي مرسل . فأوحى الله ، عز وجل ، إلى جبريل : أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تُعطَه ، واشفع تشفع . فشفَعتُ{[17765]} في أمتي : أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا . فما زلت أتردد إلى ربي ، عز وجل ، فلا أقوم منه مقامًا إلا شفعت ، حتى أعطاني الله من ذلك ، أن قال : يا محمد ، أَدْخِلْ [ من أمتك ]{[17766]} من خلق الله ، عز وجل ، من شهد أن لا إله إلا الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك " {[17767]} .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل ، عن الحارث بن حَصِيرة ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه : أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ، فقال بريدة : يا معاوية ، تأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم - وهو يرى أنه يتكلم بمثل{[17768]} ما قال الآخر - فقال بريدة : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة " . قال : فترجوها أنت يا معاوية ، ولا يرجوها عليّ ، رضي الله عنه ؟ !{[17769]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم البُنَاني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مُلَيْكَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا إن أمَّنا [ كانت ]{[17770]} تكرم الزوج ، وتعطف على الولد - قال : وذكر الضيف - غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ؟ فقال : " أمكما في النار " . قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما ، فأمر بهما فَرُدَّا ، فَرَجَعَا والسرور{[17771]} يرى في وجوههما ؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء ، فقال : " أمي مع أمكما " . فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه شيئًا ! ونحن نطأ عقبيه . فقال رجل من الأنصار - ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه - : يا رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ . قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال : " ما شاء الله ربي وما أطمعني{[17772]} فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقالَ الأنصاري : يا رسول الله ، وما ذاك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم ، عليه السلام ، فيقول : اكسوا خليلي . فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتي بكسوتي فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون . ويفتح نهر{[17773]} من الكوثر إلى الحوض " . فقال المنافقون : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حاله المسك ، ورضراضه التُّوم " . [ قال المنافق : لم أسمع كاليوم . قلَّما جرى ماء قط على حال أو رضراض ، إلا كان له نبتة . فقال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له نبت ؟ قال " نعم ، قضبان الذهب " ]{[17774]} . قال المنافق : لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق ، وإلا كان له ثمر ! قال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له ثمرة ؟ قال : " نعم ، ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، من شرب منه شربةً{[17775]} لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يَرْوَ بعده " {[17776]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سَلَمَة بن كُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي الزّعْرَاء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله ، عز وجل ، في الشفاعة ، فيقوم روح القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله ، ثم يقوم عيسى أو موسى - قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما - قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعًا ، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }{[17777]} .
حديث كعب بن مالك ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله [ بن كعب ]{[17778]} بن مالك ، عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي ، عز وجل ، حلة خضراء{[17779]} ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " {[17780]} .
حديث أبي الدرداء ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن ابن جُبَير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " هم غرّ مُحَجَّلُون ، من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يُؤتَونَ كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى{[17781]} بين أيديهم ذريتهم " {[17782]} .
حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حَيَّان ، حدثنا أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فَرُفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فَنَهَسَ منها نَهْسة{[17783]} ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ{[17784]} والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون . فيقول بعض الناس لبعض : [ ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل ؟ فيقول بعض الناس لبعض ]{[17785]} : أبوكم آدم ! .
فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ؛ فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي ، نفسي ، نفسي ! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .
فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدًا شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة{[17786]} على قومي ، نفسي ، نفسي ، نفسي ! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم .
فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، [ اشفع لنا إلى ربك ]{[17787]} ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته نفسي ، نفسي ، نفسي [ اذهبوا إلى غيري ]{[17788]} اذهبوا إلى موسى .
فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى .
فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد .
فيأتوني فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدًا لربي ، عز وجل ، ثم يفتح الله عليّ ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي . فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي ! فيقال : يا محمد : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر ، أو كما بين مكة وبُصْرَى " . أخرجاه في الصحيحين{[17789]} .
وقال مسلم ، رحمه الله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا هِقْلُ بن زياد ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فرُّوخ ، حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع " {[17790]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن داود بن يزيد الزّعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، سئل عنها فقال : " هي الشفاعة " {[17791]} .
رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد{[17792]} بن عبيد ، عن داود ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } قال : " هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه " {[17793]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة ، مدّ الله الأرض مدّ الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه{[17794]} . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن{[17795]} والله ما رآه قبلها ، فأقول{[17796]} رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي . فيقول الله تبارك وتعالى : صدق ، ثم أشفع . فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض " ، قال : " فهو المقام المحمود " {[17797]} ، وهذا حديث مرسل .
{ ومن الليل فتهجّد به } وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل { قرآن } . { نافلة لك } فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة ، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك . { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه ، وهو مطلق في كل مكان يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة . لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " هو المقام الذي لأشفع فيه لأمتي " ولإشعاره بأن الناس يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة ، وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقاما أو بتضمين { يبعثك } معناه ، أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام .