فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

{ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } : «من » للتبعيض ، وانتصابه على الظرفية بمضمر ، أي : قم بعض الليل فتهجد به ، والضمير المجرور راجع إلى القرآن ، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء ، والتقدير : عليك بعض الليل ، فبعيد جداً ، والتهجد مأخوذ من الهجود . قال أبو عبيدة وابن الأعرابي : هو من الأضداد ، لأنه يقال : هجد الرجل : إذا نام ، وهجد : إذا سهر ، فمن استعماله في السهر قول الشاعر :

ألا زارت وأهل منى هجود *** فليت خيالها بمنى يعود

يعني : منتبهين ، ومن استعماله في النوم قول الآخر :

ألا طرقتنا والرفاق هجود *** فباتت بعلات النوال تجود

يعني : نياماً . وقال الأزهري : الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج ، أي : تجنب الإثم والحرج ، فالمتهجد : من تجنب الهجود ، فقام بالليل . وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال : المتهجد : القائم إلى الصلاة من النوم ، هكذا حكى عنه الواحدي ، فقيد التهجد بالقيام من النوم ، وهكذا قال مجاهد ، وعلقمة ، والأسود فقالوا : التهجد بعد النوم . قال الليث : تهجد إذا استيقظ للصلاة { نَافِلَةً لَّكَ } معنى النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض ، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر ، وقيل : المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة ، وقيل : كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً ، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة ، ولأمته تطوع . قال الواحدي : إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات ، لا للكفارات ، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر ، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا ، إنما نعمل لكفارتها ، قال : وهو قول جميع المفسرين . والحاصل : أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبيّ في قوله { أَقِمِ الصلاة } ، فالأمر له أمر لأمته ، فهو شرع عام ، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل ، فإنه يعمّ جميع الأمة ، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب ، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف . وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودًا } قد ذكرنا في مواضع أن { عسى } من الكريم إطماع واجب الوقوع ، وانتصاب { مقاماً } على الظرفية بإضمار فعل ، أو بتضمين البعث معنى الإقامة ، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي : يبعثك ذا مقام محمود ؛ ومعنى كون المقام محموداً : أنه يحمده كل من علم به . وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال : الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه ، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية ، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل ، قال الواحدي : وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة . القول الثاني : أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة . ويمكن أن يقال : إن هذا لا ينافي القول الأوّل ، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد . القول الثالث : أن المقام المحمود : هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه ، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد ، وقد ورد في ذلك حديث . وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث . قال ابن عبد البرّ : مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل ، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا ، والثاني في تأويل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 23 ] . قال : معناه تنتظر الثواب ، وليس من النظر . انتهى . وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة . القول الرابع : أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير ، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة ، فالمصير إليها متعين ، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال : الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى قوله : ( وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد ) أنه عام في كل ما هو كذلك ، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق ، كما ذكره في ذبح البقرة ، ولهذا قال هنا . وقيل : المراد : الشفاعة ، وهي نوع واحد مما يتناوله ، يعني : لفظ المقام ، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف ، فلا نطيل بذكره .

/خ85