الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

{ وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي قم بعد نومك وصل .

قال المفسرون : لا يكون التهجد إلاّ بعد النوم يقال : تهجد إذا سهر ، وهجد إذا نام .

وقال بعض أهل اللغة : يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد .

روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف : عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقال : لأنظرنّ كيف يصلي النبي صلى الله عليه وسلم قال : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ إستيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ } [ الآية : 190 ] ثمّ أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكاً فأستّن به ثمّ توضأ ثمّ صلى ثمّ نام ثمّ إستيقظ ، فصنع كصنيعه أول مرة ، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى .

{ نَافِلَةً لَّكَ } قال ابن عبّاس : خاصة لك ، مقاتل بن حيان : كرامة وعطاء لك .

ابن عبّاس : فريضتك .

وقال : أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل خاصة وكتبت عليه ، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلاً عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة .

وقال قتادة : تطوعاً وفضيلة .

وقال بعض العلماء : كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثمّ رخص له في تركها فصارت نافلة . وقال مجاهد : والنافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم ، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ماسوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل .

{ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } .

قال أهل التأويل : عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لايدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور ، ولو أن رجلاً قال لآخر : اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عاراً له وتعالى الله عن ذلك ، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأُمته يحمده فيه الأولون والآخرون .

عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت ابن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله ثمّ قرأ { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } " " .

وعن حذيفة بن اليمان قال : يُجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمّداً صلى الله عليه وسلم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلاّ اليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } .

قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم ( عليه السلام ) فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عزّ وجلّ بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء فإشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك ، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربَه من ذلك ولكن أئتوا نوحاً فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحاً فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن أئتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم ( عليه السلام ) فيقول : لست هناك ولكن أئتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى ( عليه السلام ) فيقول : لست هناك ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول أئتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى ( عليه السلام ) فيقول لست هناك ولكن أئتوا محمّداً عبداً غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتّى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثمّ يقول : إرفعك رأسك ثم يقول : قلْ يسمع وسّل تعط واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة ، ثمّ أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعتَ أو خررتَ ساجداً لربي فيدعني ماشاء الله أن يدعني ، ثمّ قال : إرفع يا محمّد رأسك قل يسمع وسل تعطه وإشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة .

ثمّ أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجداً لربي فيدعني ماشاء الله أن يدعني ، ثمّ يقال إرفع يا محمّد رأسك قل تسمع وسل تعطه وإشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثمّ أعود إليه الرابعة ، وأقول يارب مابقي إلاّ من حبسه القرآن " .

قال أنس بن مالك : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير مايزن شعيرة ثمّ يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير مايزن ذرة " .

وروى أبو عاصم محمّد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال : كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلاً شاباً ، قال : فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثمّ يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عزّ وجلّ يقول :

{ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] و

{ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] .

فقال لي : تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم فقال : فهل سمعت مقام محمّد المحمود الذي يبعثه الله فيه ؟ قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمّد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار .

ثمّ نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال : وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها ، قال : فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس . قال : فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ماخرج منا غير رجل واحد .

الزهري عن علي بن حسين قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة مدَّ الأرض مدّ الأديم [ بالعكاظي ] حتّى لايكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه " .

قال النبي صلى الله عليه وسلم " فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها ، وأقول : يارب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليَّ فيقول الله تعالى : صدق ، ثمّ أشفع فأقول يارب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال : وهو المقام المحمود " .

وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال : قال عبد الله : يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعاً فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود .

سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالبراق قال لجبرائيل : والذي بعثك بالحق لايركبني حتّى يضمن لي الشفاعة " .

عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } .

قال : يدنيني فيقعدني معه على العرش " .

ابن فنجويه : أجلسني معه على سريره .

أبو أُسامة عن داود بن يزيد [ الأزدي ] عن أبيه عن أبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : " الشفاعة " " .

عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال : إن الله تعالى إتخذ إبراهيم خليلاً وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثمّ قرأ { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : يقعده على العرش .

وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيقعد بين يدي الرب عزّ وجلّ على الكرسي .

وروى ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : يجلسه على العرش .

قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي : هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائماً بذاته ثمّ خلق الأشياء من غير حاجة له إليها ، بل إظهاراً لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة ، وخلق لنفسه عرشاً إستوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان ، فعلى هذا القول سواء أقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على العرش أو على الأرض لأن إستواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش ، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف ، وليس إقعاده محمّداً صلى الله عليه وسلم على العرش موجباً له صفة الربوبية أو مخرجاً إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه ، وأما قولهم : في الأخبار معه ، فهو شابه قوله تعالى

{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } [ الأعراف : 206 ] و

{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } [ التحريم : 11 ] ونحوهما من الآيات ، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم .