قوله تعالى : { وَمِنَ الليل } : في " مِنْ " هذه وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب " تَهجَّد " أي : تهجَّد بالقرآن بعض الليل .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ ، تقديره : وقم قومة من الليل ، أو : واسهر من الليل ، ذكرهما الحوفيُّ ، وقال الزمخشريُّ : " وعليك بعض الليل ، فتهجَّد به " فإن كان أراد تفسير المعنى ، فقريبٌ ، وإن أراد تفسير الإعراب ، فلا يصحُّ ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً ، وجعله " مِنْ " بمعنى " بعضٍ " لا يقتضي اسميَّتها ؛ بدليل أنَّ واو " مَعَ " ليست اسماً بإجماع ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو " مَعَ " .
الظاهر : عوده على القرآن ؛ من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر .
والثاني : أنها تعود على الوقت المقدر ، أي : وقُم وقتاً من الليل ، فتهجَّد بذلك الوقت ، فتكونُ الباء بمعنى " في " .
أحدها : أنها مصدرٌ ، أي : تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة .
والثاني : أنها منصوبة ب " تهجَّد " لأنه في معنى " تنفَّل " فكأنه قيل : تنفَّل نافلة ، والنَّافلةُ ، مصدر ؛ كالعاقبة ، والعافية .
الثالث : أنها منصوبة على الحال ، أي : صلاة نافلةٍ ، قاله أبو البقاء{[20628]} ، وتكون حالاً من الهاء في " به " إذا جعلتها عائدة على القرآن ، لا على وقتٍ مقدر .
الرابع : أنها منصوبة على المفعول بها ، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ ، فإنه قال : " ويجوز أن ينتصب " نَافلةً " بتهجَّد ، إذا ذهبت بذلك إلى معنى : صلِّ به نافلة ، أي : صلِّ نافلة لك " .
والتهَجُّدُ : ترك الهجود ، وهو النُّومُ ، " وتفَعَّل " يأتي للسَّلب ، نحو : تحرَّج ، وتأثَّم ، وفي الحديث : " كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ " {[20629]} وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة ، فقيل : هو النَّومُ ؛ قال : [ الطويل ]
وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20630]}
ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20631]}
ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ *** وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ{[20632]}
فَهجودٌ : نيامٌ ، جمع " هاجدٍ " كساجد ، وسجُودٍ ، وقيل : الهجود : مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي ، قال ابن الأعرابي : " تهجَّد : صلَّى من الليل ، وتهجد : نام " وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى- .
قال الواحديُّ{[20633]} : الهُجودُ في اللغة : النومُ ، وهو كثيرٌ في الشِّعر .
يقال : أهجدتُّه وهجدتُّه ، أي : أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [ الرمل ]
قَالَ : هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20634]}
كأنه قال : نوِّمنا ؛ فقد طال السُّرى ؛ حتى غلب علينا النَّوم ، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنَّ الهاجد هو النَّائم ، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً ؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً ؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه ؛ كما يقال للعابد : " مُتحَنِّثٌ " ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه ، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال : أيَحسبُ أحدكم ، إذا قام من اللَّيلِ ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد ، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً عليه{[20635]} .
والنافلةُ في اللغة : الزيادة على الأصل ، وقد تقدَّم في الأنفال ، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل ، هل كانت واجبة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ .
فقيل : إنَّها واجبة عليه ؛ لقوله سبحانه وتعالى : { ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1 ، 2 ] ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي : تطوُّعاً وزيادة على الفرائض .
وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً ، قالا : إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ما تقدَّم من ذنبه ، وما تأخَّر ، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صلى الله عليه وسلم سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب ، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ ، وكثرة الثَّواب ؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب ، فلهذا سمِّي نافلة ؛ بخلاف الأمة ؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير ، فهذه الطاعة يحتاجون إليها ؛ لتكفير السَّيئات عنهم ؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا في حقِّ غيره ، فلهذا قال : " نَافلةً لكَ " ، فهذا معنى يخصِّصهُ .
وأمَّا من قال : إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : معنى كونها نافلة له على التخصيص ، يعني : أنَّها فريضةٌ لك ، زائدة على الصَّلوات الخمس ، خصِّصت بها من دون أمَّتك ؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى : { فَتَهَجَّدْ } والأمر للوجوب ، ويرد هنا قوله : { نَافِلَةً لَّكَ ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب ، لقال : " نَافِلةً عليك " .
واعلم أنَّ قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر } وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد الأمر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ .
قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } في نصب " مقاماً " أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، أي : يبعثك في مقام .
الثاني : أن ينتصب بمعنى " يَبْعثكَ " ؛ لأنه في معنى " يُقِيمكَ " ؛ يقال : أقيم من قبره ، وبعث منه ، بمعنًى ، فهو نحو : قعد جلوساً .
الثالث : أنه منصوبٌ على الحال ، أي : يبعثك ذا مقامٍ محمود .
الرابع : أنه مصدر مؤكد ، وناصبه مقدر ، أي : فيقوم مقاماً .
و " عَسَى " على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة ؛ فتكون مسندة إلى " أنْ " وما في حيِّزها ؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون " أنْ يَبْعثكَ " خبراً مقدَّماً ، و " ربُّكَ " اسماً مؤخراً ؛ لزمَ من ذلك محذورٌ : وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها ، فإنَّ " مَقاماً " على الأوجه الثلاثة الأول : منصوبٌ ب " يَبْعثكَ " ، وهو صلة ل " أنْ " ، فإذا جعلت " ربُّكَ " اسمها ، كان أجنبيًّا من الصلة ، فلا يفصل به ، وإذا جعلته فاعلاً ، لم يكن أجنبيًّا ، فلا يبالي بالفصل به .
وأمَّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير ؛ لعدم المحذور ؛ لأنَّ " مقاماً " معمولٌ لغير الصلة .
وقوله : " محموداً " في انتصابه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يَبْعثكَ ، أي : يبعثك محموداً .
والثاني : أن يكون نعتاً للمقام .
اتفق المفسرون على أنَّ كلمة " عسى " من الله واجبٌ .
قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنساناً في شيء ، ثم حرمه ، كان عاراً ، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء ، ثم لا يعطيه .
وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ :
قال الواحدي{[20636]} : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : " هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه " {[20637]} .
قال ابن الخطيب{[20638]} : واللفظ مشعر به ؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ ، والحمد ، إنما يكون على الإنعام ، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين ، وتعليم الشرائع ؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال ، وقوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ } تطميعٌ ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس ، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى .
وأيضاً : التنكيرُ في قوله : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب ؛ لأنَّه لا حاجة به إليها ؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها ، وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب ؛ على ما هو مذهب أهل السنة .
ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا ، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى ، وجب حمل اللفظ عليه ، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن : " وابعثه المقام المحمود الذي وعدته " {[20639]} .
واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة .
والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع الناس في صعيدٍ ، فلا تتكلَّم نفسٌ ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : لَبَّيكَ ، وسَعْديْكَ ، والشَّرُّ ليس إليك ، والمهديُّ من هَديْتَ ، والعَبْدُ بين يَديْكَ ، وبِكَ وإلَيْكَ ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ ، تَباركتَ ، وتَعاليْتَ ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ " .
قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }{[20640]} .
والقول الأول أولى ؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محموداً ، وأمَّا ذكر هذا الدعاء ، فلا يفيد إلا الثواب ، أمَّا الحمد ، فلا .
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول ؟ .
فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور في مقابلة الإنعام بلفظٍ ، فإن ورد لفظ " الحمد " في غير هذا المعنى ، فعلى سبيل المجاز .
القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته ، وهذا ضعيفٌ ؛ لما ذكرنا .
القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس{[20641]} - رضي الله عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ{[20642]} .
قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه :
الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس ، يقال : بعثتُ النَّاقة ، وبعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ ؛ وهو فاسدٌ .
والثاني : أنه تعالى ، لو كان جالساً على العرشِ ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً ، ومن كان كذلك ، فهو محدثٌ .
الثالث : أنه تعالى قال : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ولم يقل : مقعداً ، والمقام : موضع القيام ، لا موضع القعود .
الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه ، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين ، لم يكن في تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ .
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً ، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم ، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه ؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل ، عديم الدِّين .