تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

78

المفردات :

فتهجد به : أي : فاترك الهجود فيه لتصلي ، كالتحنث : ترك الحنث ، والتأثم ترك الإثم .

مقاما محمودا : مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة .

التفسير :

79- { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } .

{ ومن الليل فتهجد به } أي : واسهر بعض الليل وتهجد{[462]} به وهو أول أمر له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة .

{ نافلة لك } أي : أنها عبادة زائدة على الصلوات الخمس مخصوصة بك وحدك دون أمة ، فهي فريضة عليك ومندوبة في حق أمتك .

{ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } أي : افعل هذا الذي أمرتك به ؛ لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى .

قال الطبري :

وعسى من الله واجبة وإنما وجه قول أهل العلم عسى من الله واجبة أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه{[463]} .

{ مقاما محمودا } أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه يعرفه ، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ؛ للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، كما وردت به الأخبار الصحيحة{[464]} .

قال النيسابوري :

والأولى أن ذلك المقام المحمود بالشفاعة ؛ لأن الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ، ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة ، أو لا إنعام أجل منها ؛ لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب ، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( وهو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ){[465]} .

وقال الطبري :

( اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود ، فقال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة في ذلك اليوم ){[466]} .

أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضي الله عنه قال : يجمع الله الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي : يا محمد ، فيقول : ( لبيك وسعديك . والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت ) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله .

وقد ورد في الأحاديث الصحيحة : أن الزحام إذا اشتد يوم القيامة ، ألهم الناس أن الشفاعة للأنبياء ، فيذهب الناس إليهم ، فيقول كل نبي : نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، حتى يذهبوا إلى النبي صل الله عليه وسلم فيستشفعون به عند الله تعالى ؛ ليريحهم من هول الموقف ، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : أنا لها أنا لها ! ثم يذهب تحت ساق العرش فيسجد ، ثم يلهمه الله تعالى من الثناء عليه والحمد له ما هو له أهل ، ثم يقول له الله عز وجل : ارفع ، واشفع تشفع . وسل تعط ، فذاك هو المقام المحمود الذي قال له الله : {[467]} { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } .

وروى البخاري عن جابر ابن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال حين يسمع النداء : {[468]} ( اللهم ، رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي ){[469]} .


[462]:- التهجد: ترك الهجود وهو النوم و(تفعل) يأتي للسلب ك(تأثم وتحرج)، بمعنى: ترك الإثم والحرج. قال الأزهري: المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له: (متهجد)؛ لإلقائه الهجود عن نفسه كما يقال للعابد: (متحنث)؛ لإلقائه الحنث عن نفسه. ونقل عن ابن فارس أن معناه: صل ليلا. وكذا عن ابن الأعرابي قال: هجد الرجل وتهجد؛ إذا صلى بالليل والمعروف الأول.
[463]:- تفسير الطبري 15/97 ط بولاق.
[464]:- ورد ذلك في البخاري في: 65- كتاب التفسير 1، 7 سورة الإسراء، حديث رقم 787 عن ابن عمر.
[465]:- تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 15/77.
[466]:- تفسير الطبري 15/97 ط بولاق.
[467]:- رواه الإمام أحمد في مسنده في حديث طويل ذكر فيه: (إن الناس تذهب إلى نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فيعتذر كل نبي ويقول: اذهبوا إلى غيري، إن الجبار غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب مثله).
[468]:- المراد به: النداء للصلاة وهو الأذان والإقامة.
[469]:- اللهم رب هذه الدعوة التامة: رواه البخاري في الأذان (614) وفي التفسير (4719) وأبو داود في الصلاة (529) والترمذي في الصلاة (211) والنسائي في الأذان (680) وابن ماجة في الأذان (722) وأحمد في مسنده (14209) من حديث جابر ابن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته؛ حلت شفاعتي يوم القيامة).