وليست الأموال والأولاد بالتي تقرب إلى الله زلفى وتدني إليه ، وإنما الذي يقرب منه زلفى ، الإيمان بما جاء به المرسلون ، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان ، فأولئك لهم الجزاء عند اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، لا يعلمها إلا اللّه ، { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : في المنازل العاليات المرتفعات جدا ، ساكنين فيها مطمئنين ، آمنون من المكدرات والمنغصات ، لما هم فيه من اللذات ، وأنواع المشتهيات ، وآمنون من الخروج منها والحزن فيها .
ثم قال : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي : ليست هذه دليلا على محبتنا لكم ، ولا اعتنائنا بكم .
قال{[24370]} الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا كَثير ، حدثنا جعفر ، حدثنا يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[24371]} : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » . [ و ]{[24372]} رواه مسلم وابن ماجة ، من حديث كثير بن هشام ، عن جعفر بن بُرْقَان ، به . {[24373]}
ولهذا قال : { إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح ، { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } أي : تضاعف{[24374]} لهم الحسنة بعشرة{[24375]} أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى ، ومن كل شر يُحْذَر منه .
قال{[24376]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم وعلي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لَغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها » . فقال أعرابي : لمن هي ؟ قال : " لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، [ وصلى بالليل والناس نيام ] " {[24377]} {[24378]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} يعني قرابة {إلا من آمن} صدق بالله {وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} من الخير نجزي بالحسنة الواحدة عشرة فصاعدا.
{وهم في الغرفات} غرف الجنة {آمنون} من الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: وما أموالكم التي تفتخرون بها أيّها القوم على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقرّبكم منا قُرْبَةً...
وقوله:"إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحا"، اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زُلفى، إلاّ من آمن وعمل صالحا، فإنه تقرّبهم أموالهم وأولادهم بطاعتهم الله في ذلك، وأدائهم فيه حقه إلى الله زلفى دون أهل الكفر بالله... وقد يحتمل أن يكون «من» في موضع رفع، فيكون كأنه قيل: وما هو إلاّ من آمن وعمل صالحا.
وقوله: "فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ "يقول: فهؤلاء لهم من الله على أعمالهم الصالحة الضعف من الثواب، بالواحدة عشر...
وقوله: "فِي الغُرُفاتِ آمِنُونَ "يقول: وهم في غرفات الجنات آمنون من عذاب الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى} ولكن ما ذكر حين قال: {إلا من آمن وعمل صالحا} أي ذلك يقرّب عندنا زلفى: من آمن به، سواء أكان له مال وولد أم لم يكن.
{فأولئك لهم جزاء الضعف بما علموا}: من الناس من احتج بتفضيل الغِنى على الفقر بهذه الآية، يقول: أخبر أن لهم جزاء الضعف إذا آمنوا، وعملوا الصالحات بالأموال التي أعطاهم، وأما الفقير فليس له ذلك؛ إذ ليس له عنده ما يضاعف له، وأما عندنا فإن قوله: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} لهم جزاء الضعف له، وذلك للغنيّ والفقير جميعا.
وذكرنا في غير موضع أن التكلم في فضل الغنى على الفقر أو الفقر على الغنى كلام، لا معنى له، لأنهما شيئان، لا صنع لأحد في ذلك، يُمتحنان في تلك الأحوال بأمرين، أحدهما: بالشكر، والآخر بالصبر. فمن وفى بما امتُحن هو في تلك الحال، فهو أفضل ممن لم يف بذلك، وبه يستوجب الفضل إن استوجب، فأما بنفس تلك الحال فلا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تستحقّ الزّلفى عند الله؛ بالمال والأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة والأَحوال الصافية والأنفاس الزاكية، بلْ بالعناية السابقة، وَالهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة.
{فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ}: يضاعف على ما كان لِمَنْ تقدمهم من الأُمم.
{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} مِنْ تكَّدر الصفوة والإخراج من الجنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأموال لا تقرب أحداً إلاّ المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة...
يعني قولكم نحن أكثر أموالا فنحن أحسن عند الله حالا ليس استدلالا صحيحا، فإن المال لا يقرب إلى الله ولا اعتبار بالتعزز به، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان، والذي يدل عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه، فكيف يقرب منه، والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئا حصل.
{فأولئك لهم جزاء الضعف} أي الحسنة فإن الضعف لا يكون إلا في الحسنة، وفي السيئة لا يكون إلا المثل.
{وهم في الغرفات آمنون} إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع عنه النعمة لا يكون آمنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تقربكم عندنا} أي على ما لنا من العظمة بتصرفاتكم فيها بما يكسب المعالي.
{زلفى} أي درجة علية وقربة مكينة...
ولما منّ على المصلحين من المؤمنين في أموالهم وأولادهم بأن جعلها سبباً لمزيد قربهم، دل على ذلك بالفاء في قوله: {فأولئك} أي العالو الرتبة {لهم جزاء الضعف}.
{بما عملوا} فإن أعمالهم ثابتة محفوظة بأساس الإيمان.
{وهم في الغرفات} أي العلالي المبنية فوق البيوت في الجنان، زيادة على ذلك {آمنون} أي ثابت أمنهم دائماً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأياً ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس، ومن حكمة الله، فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلاً بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله؛ ولكنها تتوقف على تصرف المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه، فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
قرر كتاب الله حقيقة دينية ثابتة قام عليها الإسلام، ألا وهي أن قيمة الإنسان عند ربه تقدر بخلقه القويم وسلوكه المستقيم، بشكل متواصل ومستديم، ولا دخل للغنى والفقر في هذا التقويم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ امتلاك الإمكانات الاقتصادية والقوّة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.
ثمّ تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل استثناء منفصل) فتقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون)، وعليه فجميع المعايير تعود أصلا إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح»، ويستوعب هذا المعيار جميع الأفراد وفي أي زمان أو مكان، ومن أي طبقة أو مجموعة كان.
واختلاف مراتب البشر أمام الله إنّما هو بتفاوت درجات إيمانهم ومراتب عملهم الصالح، ولا شيء سوى ذلك، حتّى طلب العلم أو الانتساب إلى أفراد عظماء، بل حتّى للأنبياء، إذا لم يكن مقترناً بهذين الأمرين فإنّه وحده لا يضيف إلى قيمة الإنسان شيئاً.
هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كلّ الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله وما يرفع من قيمة الإنسان، ويخلص إلى أنّ المعيار الأصيل هو في شيئين فقط يستطيع كلّ الناس تحصيلها، وأنّ الإمكانات والمحروميات المادية لا أثر لها في ذلك.
«غرفات» جمع «غرفة» بمعنى الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل، وبعيدة عن الآفات، لذا عبّر القرآن عن أفضل منازل الجنّة (بالغرف)، وهذه اللفظة من مادّة «غرف»، على زنة (بحر) بمعنى رفع الشيء وتناوله.
التعبير ب «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنّة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي، فلا خوف من هجوم عدوّ أو مرض أو آفة أو ألم ولا خوف حتّى من الخوف!، وليس أغلى من هذه النعمة بأن يكون الإنسان آمناً من كلّ جانب، فلا بلاء أشدّ من الإحساس بعدم الأمن في مختلف جوانب الحياة.