اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُم بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰٓ إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَزَآءُ ٱلضِّعۡفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمۡ فِي ٱلۡغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ} (37)

ثم بين فساد استدلالهم بقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقرب إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عن الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل ؟{[44701]}

قوله : { بالتي تُقَرِّبُكُم } صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة{[44702]} ، وقال الفراء{[44703]} والزجاج{[44704]} إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً . ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي » صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح{[44705]} وجعل الزمخشري «التي » صفة لموصوف محذوف قال : «ويجوز أن يكون هي{[44706]} التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَدُكُمْ بتلك الموصوفة{[44707]} عند الله بالتقريب »{[44708]} . قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف{[44709]} .

قال شهاب الدين : والحاجة إليه{[44710]} بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعية ، و «زُلْفَى » مصدر مِنْ مَعْنى الأول ، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى ، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين{[44711]} الكلمة على أنها جمع «زُلْفَى » نحو قُرْبَة{[44712]} وقُرَب ، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف{[44713]} أنواعه وقال الأخفش : «زُلْفَى »{[44714]} اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً{[44715]} .

قَوْلُهُ : { إلاَّ مَنْ } فيه أوجه :

أحدها : أنه استثاء منقطعٌ{[44716]} فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً ، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي{[44717]} .

الثاني : أنه في محل جر بدلاً من الضمير في : «أَمْوَالِكُمْ » قاله الزجاج{[44718]} . وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رَأَيْتُكَ زَيْداً{[44719]} ، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفراء انتهى{[44720]} . قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز . وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له{[44721]} . قال شهاب الدين : ومنعه قولك «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً » فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أعطى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك : «مَا ظَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ » سوغ البدل في زيد من ضمير «يَفْعَلُ » وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا{[44722]} مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك من حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال : «إلاَّ مَنْ آمَنَ » استثناء من «كُمْ » في «نُقَرِّبُ »{[44723]} والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الذي يُنْفِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح{[44724]} . ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ » و «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً »{[44725]} . والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة{[44726]} . الرابع : أنَّ «مَنْ آمَنَ » في محلِّ رفع على الابتداء والخبر{[44727]} .

قوله : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله . قوله : «فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ » ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعوله ، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ{[44728]} . ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه{[44729]} . وقرأ قتادة برفعها{[44730]} على إبدال الضّعفِ من «جزاء »{[44731]} . وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار{[44732]} . وهذه كقوله : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى }{[44733]} [ الكهف : 88 ] ، فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف .

قوله : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } قرأ حمزة الغُرْفَةِ{[44734]} بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله : { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغُرُفَاتِ » جمع سلامة{[44735]} وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] والرسم محتمل للقراءتين . وقرأ الحسن بضم راء غُرُفات{[44736]} على الإتباع وبعضهم يفتحها{[44737]} وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة{[44738]} . وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد{[44739]} .

فصل

والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة{[44740]} عشرة إلى سبع مائة لأن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون } إشارة إلى دوامها وتأبيدها .


[44701]:قاله الرازي في تفسيره 25/262.
[44702]:قاله السمين في تفسيره 4/448.
[44703]:قال: ولو وجهت "التي" إلى الأموال واكتفيت بها من ذكر الأولاد صلح ذلك كما قال مرار الأسدي: نحن بما عندنا وأنت بما: عندك راض والرأي مختلف.
[44704]:قال: "وما أولادكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم ولكنه حذف اختصارا وإيجازا". انظر: معاني الفراء 2/363، ومعاني الزجاج 4/255.
[44705]:قال: "إن شئت جعلت "التي" جامعة للأموال والأولاد لأن الأولاد يقع عليها "التي" فلما أن كانا جمعا صلح "للتي" أن تقع عليهما".
[44706]:في الكشاف ويجوز أن يكون التي هي التقوى.
[44707]:وفيه "الموضوعة" لا الموصوفة.
[44708]:انظر: الكشاف 3/292.
[44709]:البحر المحيط 7/285.
[44710]:الدر المصون 4/448.
[44711]:في "ب" وبتنوين.
[44712]:كذا هي في أكثر من مرجع والأصح: "قربى" قياسا على زلفى. وانظر القراءة في بحر أبي حيان 7/285.
[44713]:المرجع السابق وانظر: الدر المصون 4/448.
[44714]:قاله في المعاني 2/663.
[44715]:في المعاني له إزلافا وليس تقريبا.
[44716]:قاله أبو البقاء في التبيان 1070 وابن الأنباري في البيان 2/282 ومكي في المشكل 2/211 والنحاس في الإعراب 3/352.
[44717]:قاله القرطبي 14/306.
[44718]:معاني القرآن وإعرابه 4/255.
[44719]:إعراب القرآن له 4/352.
[44720]:في الحقيقة لم يعربها الفراء بدلا في معاني القرآن 2/363 با أجازها على الاستثناء أو على المفعول به أو على الخبر قال: "في موضع نصب بالاستثناء وإن شئت أوقعت عليها التقريب وإن شئت جعلته رفعا أي ما هو إلا من آمن".
[44721]:قاله في بحره 7/286.
[44722]:الدر المصون 4/449.
[44723]:التقريب هو الأصح فالمستثنى منه: "كم" من تقربكم لا "أموالكم" كما وهم المؤلف أعلى. وقال بذلك القرطبي في الجامع 14/306 ومكي في المشكل 2/211 وأبو حيان في البحر 7/286 والمعنى يؤيد ما نقول فالعبرة بالتقريب من "تقربكم" ولعله سهو من المؤلف أن قال بهذا نقلا عن الزجاج.
[44724]:كشاف الزمخشري 3/292.
[44725]:البحر المحيط 7/286.
[44726]:قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون 4/450.
[44727]:قاله أبو البقاء في التبيان 1070 والفراء في المعاني 2/363.
[44728]:قال في الكشاف 3/292: "فأولئك لهم أن يجازوا الضعف".
[44729]:البحر المحيط 7/286.
[44730]:قال بها القرطبي 14/306 وأبو حيان 286/7 والكشاف 3/292 والفراء في المعاني 2/363 و 364 وتلك قراءات شاذة رواية ولكنها تصح عربية كما أوضح بذلك الزجاج 4/256 والفراء 2/364.
[44731]:المرجعان السابقان.
[44732]:من القراءات العشرية المتواترة أوردها ابن الجزري في النشر 2/351 وانظر: تقريب النشر 162، والإتحاف 360.
[44733]:الكهف الآية 88 وهي قراءة سبعية متواترة وانظر: السبعة 399 والإتحاف 294 ومعاني الفراء 2/364 والكشف 2/75.
[44734]:القرطبي 14/306 والكشاف 3/292 والكشف 2/208.
[44735]:بالتأنيث وانظر المراجع السابقة.
[44736]:روي عنه في الإتحاف أنه يقرأ بإسكان الراء الإتحاف 360 والمختصر لابن خالويه 122 ولعلها قراءة أخرى نسبت له والإسكان جائز للخفة والسهولة فإذا كانوا يخففون الفتحة في "عضد" أي الواحدة فمن باب أولى أن تخفف الضمتان المتتاليتان.
[44737]:لم تنيب في البحر 7/286 والكشاف 3/292 وابن خالويه 122.
[44738]:عند قوله : {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} الآية 208 حيث قرأ الكسائي ومن معه خطوات بضم الطاء اتباعا للخاء وبعضهم بفتح الطاء انظر: الإتحاف 156.
[44739]:أوردها ابن خالويه في المختصر دون ضبط لها وتكلم عنها أبو حيان في البحر بفتح الراء. انظر المختصر 122 والبحر 7/286 والقرطبي 14/306.
[44740]:معالم التنزيل للبغوي 5/293.