ثم بين فساد استدلالهم بقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقرب إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عن الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل ؟{[44701]}
قوله : { بالتي تُقَرِّبُكُم } صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة{[44702]} ، وقال الفراء{[44703]} والزجاج{[44704]} إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً . ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي » صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح{[44705]} وجعل الزمخشري «التي » صفة لموصوف محذوف قال : «ويجوز أن يكون هي{[44706]} التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَدُكُمْ بتلك الموصوفة{[44707]} عند الله بالتقريب »{[44708]} . قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف{[44709]} .
قال شهاب الدين : والحاجة إليه{[44710]} بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعية ، و «زُلْفَى » مصدر مِنْ مَعْنى الأول ، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى ، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين{[44711]} الكلمة على أنها جمع «زُلْفَى » نحو قُرْبَة{[44712]} وقُرَب ، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف{[44713]} أنواعه وقال الأخفش : «زُلْفَى »{[44714]} اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً{[44715]} .
قَوْلُهُ : { إلاَّ مَنْ } فيه أوجه :
أحدها : أنه استثاء منقطعٌ{[44716]} فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً ، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي{[44717]} .
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من الضمير في : «أَمْوَالِكُمْ » قاله الزجاج{[44718]} . وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رَأَيْتُكَ زَيْداً{[44719]} ، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفراء انتهى{[44720]} . قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز . وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له{[44721]} . قال شهاب الدين : ومنعه قولك «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً » فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أعطى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك : «مَا ظَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ » سوغ البدل في زيد من ضمير «يَفْعَلُ » وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا{[44722]} مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك من حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال : «إلاَّ مَنْ آمَنَ » استثناء من «كُمْ » في «نُقَرِّبُ »{[44723]} والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الذي يُنْفِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح{[44724]} . ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ » و «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً »{[44725]} . والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة{[44726]} . الرابع : أنَّ «مَنْ آمَنَ » في محلِّ رفع على الابتداء والخبر{[44727]} .
قوله : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله . قوله : «فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ » ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعوله ، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ{[44728]} . ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه{[44729]} . وقرأ قتادة برفعها{[44730]} على إبدال الضّعفِ من «جزاء »{[44731]} . وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار{[44732]} . وهذه كقوله : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى }{[44733]} [ الكهف : 88 ] ، فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف .
قوله : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } قرأ حمزة الغُرْفَةِ{[44734]} بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله : { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغُرُفَاتِ » جمع سلامة{[44735]} وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] والرسم محتمل للقراءتين . وقرأ الحسن بضم راء غُرُفات{[44736]} على الإتباع وبعضهم يفتحها{[44737]} وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة{[44738]} . وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد{[44739]} .
والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة{[44740]} عشرة إلى سبع مائة لأن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون } إشارة إلى دوامها وتأبيدها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.