الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُم بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰٓ إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَزَآءُ ٱلضِّعۡفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمۡ فِي ٱلۡغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ} (37)

قوله : { بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ } : صفةٌ للأموالِ والأولادِ ؛ لأنَّ جمعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدة . وقال الفراء والزجَّاج : إنَّه حذفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه . قالا : والتقدير وما أموالُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلْفَى ، ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم . وهذا لا حاجةَ إليه أيضاً . ونُقِل عن الفراء ما تقدَّمَ : مِنْ أنَّ " التي " صفةٌ للأموالِ والأولادِ معاً . وهو الصحيح . وجعل الزمخشري " التي " صفةً لموصوفٍ محذوفٍ . قال : " ويجوزُ أَنْ تكون هي التقوى وهي المقرِّبةُ عند الله زُلْفَى وحدها أي : ليسَتْ أموالُكم وأولادُكم بتلك الموصوفةِ عند الله بالتقريبِ " . وقال الشيخ : " ولا حاجةَ إلى هذا الموصوفِ " قلت : والحاجةُ إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعيةٌ .

قوله : " زُلْفَى " مصدرٌ مِنْ معنى الأول ، إذ التقدير : تُقَرِّبكم قُرْبى . وقرأ الضحَّاك " زُلَفاً " بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمعُ زُلْفَى نحو : قُرْبَة وقُرَب . جُمِع المصدرُ لاختلافِ أنواعِه .

قوله : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطعٌ فهو منصوبُ المحلِّ . الثاني : أنه في محلِّ جَرّ بدلاً من الضمير في " أموالكم " . قاله الزجاج . وغَلَّطه النحاس : بأنه بدلٌ من ضمير المخاطب . قال : " ولو جاز هذا لجازَ " رَأَيْتُك زيداً " . وقولُ أبي إسحاقَ هذا هو قولُ الفراءِ " . انتهى .

قال الشيخُ : " ومذهبُ الأخفش والكوفيين أنه يجوزُ البدلُ مِنْ ضميرِ المخاطبةِ والمتكلم ؛ إلاَّ أنَّ البدلَ في الآيةِ لا يَصِحُّ ؛ ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تفريغُ الفعلِ الواقعِ صلةً لما بعد " إلاَّ " لو قلتَ : " ما زيدٌ بالذي يَضْرِب إلاَّ خالداً " لم يَجُزْ . وَتَخَيَّلَ الزجَّاجُ أنَّ الصلةَ - وإن كانَتْ مِنْ حيث المعنى منفيَّةً - أنه يجوزُ البدلُ ، وليس بجائزٍ ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ التفريغُ له " . قلت : ومَنْعُهُ قولَك : " ما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ خالداً " فيه نظرٌ ، لأنَّ النفيَ إذا كان مُنْسَحباً على الجملة أُعْطي حُكْمَ ما لو باشَرَ ذلك الشيءَ . ألا ترى أنَّ النفيَ في قولك " ما ظننتُ أحداً يَفْعلُ ذلك إلاَّ زيدٌ " سَوَّغَ البدلَ في " زيد " مِنْ ضميرِ " يَفْعَل " وإنْ لم يكنِ النفيُ مُتَسَلِّطاً عليه . قالوا : ولكنه لمَّا كان في حَيِّزِ النفي صَحَّ فيه ذلك ، فهذا مثلُه .

والزمخشريُّ أيضاً تَبع الزجَّاجَ والفراءَ في ذلك من حيث المعنى ، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء ، فقال : " إلاَّ مَنْ آمنَ استثناءٌ من " كم " في تُقَرِّبُكم . والمعنى : أنَّ الأموالَ لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ المؤمنَ الذي يُنْفقها في سبيلِ الله . والأولاد لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ مَنْ عَلَّمهم الخيرَ ، وفَقَّهَهم في الدين ، ورَشَّحهم للصلاح " .

ورَدَّ عليه الشيخُ بنحوِ ما تقدَّم فقال : " لا يجوزُ : ما زيدٌ بالذي يَخْرُج إلاَّ أخوه ، وما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ عَمْراً " . والجوابُ عنه ما تقدم ، وأيضاً فالزمخشريُّ لم يجعَلْه بدلاً بل استثناءً صريحاً ، ولا يُشْتَرَطُ في الاستثناء التفريغُ اللفظيُّ بل الإِسنادُ المعنويُّ ، ألا ترى أنك تقول : " قام القومُ إلاَّ زيداً " ولو فَرَّغْتَه لفظاً لامتنع ؛ لأنه مُثْبَتٌ . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ هو الوجهُ الثالثُ في المسألة .

الرابع : أنَّ " مَنْ آمَنَ " في محلِّ رفع على الابتداء . والخبرُ قولُه : { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ } . وقال الفراء : " هو في موضعٍ رفعٍ تقديرُه : ما هو المقرَّب إلاَّ مَنْ آمن " وهذا لا طائلَ تحته . وعَجِبْتُ من الفَرَّاءِ كيف يقوله ؟

وقرأ العامَّةُ : " جزاءُ الضِّعْفِ " مضافاً على أنه مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، أي : أَنْ يُجازِيَهم الضِّعْفَ . وقَدَّره الزمخشريُّ مبنيَّاً للمفعول أي : يُجْزَوْن الضِّعْفَ . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ الصحيحَ مَنْعُه . وقرأ قتادة برفعِهما على إبدالِ الضِّعْف مِنْ " جزاء " . وعنه أيضاً وعن يعقوبَ بنصبِ " جزاءً " على الحال . والعاملُ فيها الاستقرار ، وهذه كقولِه : { فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى } [ الكهف : 88 ] فيمَنْ قرأ بنصبِ " جزاء " في الكهف .

قوله : " في الغُرُفاتِ " قرأ حمزةُ " الغُرْفَة " بالتوحيد على إرادةِ الجنس ولعدمِ اللَّبْسِ ؛ لأنه مَعْلومٌ أنَّ لكلِّ أحدٍ غرفةً تَخُصُّه . وقد أُجْمِعَ على التوحيدِ في قوله : { يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ } [ الفرقان : 75 ] ولأنَّ لفظَ الواحدِ أخفُّ فوُضِعَ مَوْضِعَ الجمعِ مع أَمْنِ اللَّبْسِ . والباقون " الغُرُفات " جمعَ سَلامة . وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً }

[ العنكبوت : 58 ] والرسمُ مُحْتَمِلٌ للقراءَتَيْن . وقرأ الحسن بضمِّ راء " غُرُفات " على الإِتباع . وبعضُهم يَفْتحها . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك أول البقرة . وقرأ ابنُ وثَّاب " الغُرُفَة " بضمِّ الراء والتوحيد .