ومن بيانه وإيضاحه : أنه أنزله باللسان العربي ، أشرف الألسنة ، وأبينها ، [ المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة ]{[440]} وكل هذا الإيضاح والتبيين { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } أي : لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه ، وأوامره ونواهيه .
فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها ، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه ، و { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } أي : تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية ، على أذهانكم ، . فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل .
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " .
وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، { الْمُبِينِ } أي : الواضح الجلي ، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها{[15016]} .
{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة{[15017]} أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ؛ ولهذا قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن .
وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ{[15018]} . حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو - هو ابن قيس الملائي - عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } {[15019]} .
ورواه من وجه آخر ، عن عمرو بن قيس مرسلا .
وقال أيضا : حدثنا محمد بن سعيد{[15020]} العطار{[15021]} ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا خَلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة{[15022]} ، عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصتَ علينا . فأنزل الله عز وجل : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{[15023]} . ثم تلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا . فأنزل الله عز وجل : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] ، وذكر الحديث .
ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه ، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي ، به{[15024]} .
وروى ابن جرير بسنده{[15025]} ، عن المسعودي ، عن عَوْن بن عبد الله قال : مَلّ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ ، فقالوا : يا رسول الله ، حَدثنا . [ فأنزل الله : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، حدثنا ]{[15026]} فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فأرادوا الحديث ، فدلَّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص{[15027]} .
ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة ، المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد :
حدثنا سُرَيْج بن النعمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : " أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، لما{[15028]} وسعه إلا أن يتبعني " {[15029]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه{[15030]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسُرِّي عن النبي{[15031]} صلى الله عليه وسلم وقال : " والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حَظِّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين " {[15032]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عُرْفَطة قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال : نعم . قال : وأنت النازل بالسوس ، قال : نعم . فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : اجلس . فجلس ، فقرأ عليه : { بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ] } {[15033]} إلى قوله : { لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فقرأها{[15034]} ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال ! قال : مرني بأمرك أتبعه . قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ، ثم لا تقْرأه{[15035]} ولا تُقرئه أحدا من الناس ، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة ، ثم قال له : اجلس ، فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا في يدك يا عمر ؟ " . قال : قلت : يا رسول الله ، كتاب نسخته لنزداد{[15036]} به علما إلى علمنا . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح . فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا أيها الناس ، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختُصِر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تَتهوَّكوا ، ولا يغرنكم المتهوِّكون " . قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا . ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم{[15037]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، به . وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة{[15038]} الواسطي ، وقد ضعفوه وشيخه . قال البخاري : لا يصح حديثه .
قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري ، عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر : أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم : أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر ، رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة{[15039]} فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ويقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة . وإن نهانا عنها رفضناها ، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا . قالا{[15040]} لا . قال : سأحدثكما ، انطلقت في حياة رسول الله{[15041]} صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي ما تقول ؟ قال : نعم . فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي ، حتى كتبت في الأكرُع . فلما رجعت قلت : يا نبي الله ، وأخبرته ، قال : " ائتني به " . فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت{[15042]} رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : " اجلس اقرأ عليّ " . فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن ، فتحيرت من الفَرق ، فما استطعت أجيز{[15043]} منه حرفا ، فلما رأى الذي بي دَفَعه{[15044]} ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : " لا تتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا " ، حتى محا آخره حرفًا حرفا . قال عمر ، رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة ! قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا . فخرجا بصلاصفتهما{[15045]} فحفرا لها{[15046]} فلم يألُوا أن يعمِّقَا ، ودفناها فكان آخر العهد منها{[15047]} .
وكذا روى الثوري ، عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه{[15048]} وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث أبي قِلابة ، عن عمر نحوه{[15049]} . والله أعلم .
استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه ، فإنّ كونه قرآناً يدل على إبانة المعاني ، لأنّه ما جعل مقروءاً إلاّ لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارىء .
وكونه عربياً يفيد إبانة ألفاظه المعانيَ المقصودة للّذين خوطبوا به ابتداء ، وهم العرب ، إذ لم يكونوا يتبيّنون شيئاً من الأمم التي حولهم لأنّ كتبهم كانت باللغات غير العربية .
والتّأكيد ب ( إنّ ) متوجّه إلى خبرها وهو فعل { أنزلناه } ردّاً على الذين أنكروا أن يكون منزلاً من عند الله .
وضمير { أنزلناه } عائد إلى { الكتاب } في قوله : { الكتاب المبين [ سورة يوسف : 1 ] .
وقرآناً } حال من الهاء في { أنزلناه } ، أي كتاباً يقرأ ، أي منظماً على أسلوب معدّ لأنْ يقْرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار ، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعاً مستمراً يقرأه الناس .
و { عربيّاً } صفة ل { قرآناً } . فهو كتاب بالعربيّة ليس كالكتب السّالفة فإنّه لم يسبقه كتاب بلغة العرب .
وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة { لعلّكم تعقلون } ، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه ، لأنّكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملاً على ما فيه نفعكم هو سبب لعقلكم ما يحتوي عليه ، وعُبّرَ عن العلم بالعقل للإشارة إلى أنّ دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حدّ أن ينزّل من لم يَحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له ، وأنّهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء .
وحذف مفعول { تعقلون } للإشارة إلى أنّ إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره .
وتقدّم وَجه وقوع ( لعلّ ) في كلام الله تعالى ، ومحمل الرجاء المفاد بها على ما يؤول إلى التعليل عند قوله تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلّكم تشكرون } في سورة البقرة ( 52 ) ، وفي آيات كثيرة بعدها بما لا التباس بعده .