التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 1 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 2 ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ( 3 ) } [ 1- 3 ] .

معاني الآيات واضحة ، وما قلناه في الحروف المتقطعة التي بدئت بها سور عديدة سابقة ، وما رجحناه من أنها للاسترعاء والتنبيه نرجحه هنا أيضا . ومعانيها واضحة ، وفيها تمهيد لما جاء بعدها من فصول قصة يوسف ، والخطاب في { لَّعَلَّكُمْ } موجه للسامعين العرب ومهيب بهم إلى تدبر آيات القرآن الذي أنزله الله بلسانهم وفهمه والاهتداء به . والمتبادر من جملة { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } أنها توكيد لما قررته آية سورة يونس : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( 16 ) }

وآية سورة القصص : { وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ( 86 ) } على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين شرحا يغني عن التكرار . ولقد قال بعض المفسرين : {[1183]} إن الآية تعني قصة يوسف التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غافلا عنها . غير أن ضمير ( قبله ) عائد إلى القرآن كما يتبادر ويكون تأويلنا هو الأوجه ، وقد قال به غير واحد من المفسرين أيضا{[1184]}وأويلنا هو ال .

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاثة مدينة وهو غريب ؛ لأنها جاءت تمهيدا لقصة يوسف ، وفي الآيات المكية آيات مماثلة لها تماما ، ولا تظهر حكمة مدنيتها . ولم نر في كتب التفسير التي اطلعنا عليها تأييدا لهذه الرواية . ولذلك نشك في صحتها ، ولقد ذكر هذه الرواية السيوطي في الإتقان وقال : إنها واهية جدا .

تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات

واستطراد إلى مسألة أخذ العلم عن الغير

وفي كتب التفسير أحاديث عديدة في سبب نزول الآيات مفادها : أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يطلبون منه أن يحدثهم فوق الحديث ودون القرآن فأنزل الله الآيات منبها إلى أن ما يرد في القرآن هو أحسن القصص ، وأن الله قد أنزله بلسانهم ليعقلوه .

وجملة { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } لا تتسق مع هذه الأحاديث التي لم يرد شيء منها في كتب الصحاح . ولقد جاء بعد قليل من الآيات آية { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } ؛ حيث يمكن أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألوه عن قصة يوسف ، ورووا ما يقوله عنها اليهود ، فأنزل الله فصول قصة يوسف وجعل الآيات الثلاث تمهيدا لها .

ولقد أورد ابن كثير أحاديث أخرى في سياق هذه الآيات مفادها : أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكتبوا صحفا مما عند اليهود ، وأرادوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فغضب النبي من ذلك وتلا عليهم هذه الآيات . وآية سورة الزمر { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . . . } الزمر : [ 23 ] ومن هذه الأحاديث حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر جاء فيه : ( إن عمر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغضب وقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها نقية بيضاء ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق ، فتكذبوه أو بباطل فتصدقوه ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ) .

وبقطع النظر عن كون هذه الأحاديث لم ترد في الصحاح ، وأن بعض نقاد الحديث قد تكلموا فيها ، فإن الفكرة فيها هي حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اكتفاء أصحابه بما يبلغهم إياه من آيات الله وتحذرهم مما في أيدي اليهود من كتب تحمل الكذب والانشغال بها عن القرآن . ولقد روى البخاري عن أبي هريرة قال : ( كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ){[1185]} . مما قد يكون فيه تأييد ما للفكرة المذكورة . وقد تكون الفكرة صحيحة والأحاديث محتملة الصحة . وصحة الفكرة واردة بخاصة في ظرف حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين ؛ حيث كان أغلب اليهود يكفرون برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويناوئون دعوته ، ويبذلون جهدهم في الدس بين المسلمين وتشكيكهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن مما ذكرته آيات كثيرة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى . غير أن هذا ليس من شأنه فيما يتبادر لنا أن يمنع المسلم بعد ذلك العهد وفي أي عهد من الإطلاع على ما عند أهل الكتاب وغير أهل الكتاب من كتب وعلوم على اختلاف أنواعها ، وترجمتها إلى اللغة العربية واللغات الأخرى التي يتكلمها المسلمون غير العرب . وكل ما يجب عليه التنبيه والحذر والتروي حتى لا يكون سم في دسم . وهناك أحاديث عديدة صحيحة يصح أن تساق في هذا المقام . منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة جاء فيه : ( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ) . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي به علما سلك الله له طريقا إلى الجنة ) . وفي القرآن آيات كثيرة نبهت المسلمين إلى ما في الكون العظيم من آيات باهرات وأمرتهم بالتفكر بها وتدبرها ، وهذا لا يكون إلا بالتعليم والاطلاع والاقتباس من أهل العلم أيا كانوا وأين ما كانوا . ولقد فهم أهل القرون الإسلامية الزاهرة الأولى هذا على حقيقته ، فكان لهم ذلك الإسهام العظيم المبدع المذهل في كل مجالات العلم والمعرفة اطلاعا وترجمة ثم ابتداعا وتوسيعا . تشهد على ذلك ما خلفوه من تراث عظيم في كل مجالات العلم والفنون والمعرفة . والله تعالى أعلم .


[1183]:انظر تفسير الخازن مثلا.
[1184]:انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي.
[1185]:التاج جـ 4 ص 178.