{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
أي : قال اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم ، وهذا مجرد أماني غير مقبولة ، إلا بحجة وبرهان ، فأتوا بها إن كنتم صادقين ، وهكذا كل من ادعى دعوى ، لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه ، وإلا ، فلو قلبت عليه دعواه ، وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما ، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها ، ولما لم يكن بأيديهم برهان ، علم كذبهم بتلك الدعوى .
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من{[2530]} دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة . وردَّ عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
ولا بينة ، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق . وكذا قال قتادة والربيع بن أنس .
ثم قال : { قُلْ } أي : يا محمد ، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم . وقال قتادة : بينتكم على ذلك . { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه{[2531]} .
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وَقالُوا وقالت اليهود والنصارى : لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ .
فإن قال قائل : وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ، واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه ، وإنما عنى به : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى . ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه جمع الفريقان في الخبر عنهما ، فقيل : { قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } الآية ، أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديّا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيّا .
وأما قوله : مَنْ كانَ هُودا فإن في الهُودِ قولين : أحدهما أن يكون جمع هائد ، كما جاء عُوط جمع عائط ، وعُوذ جمع عائذ ، وحُول جمع حائل ، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد والهائد : التائب الراجع إلى الحقّ . والاَخر أن يكون مصدرا عن الجميع ، كما يقال : «رجل صَوْمٌ وقوم صَوْمٌ » ، و«رجل فِطْر وقوم فِطْر ونسوة فِطْر » .
وقد قيل : إن قوله : إلا مَنْ كانَ هُودا إنما هو قوله : إلا من كان يهودا ولكنه حذف الياء الزائدة ، ورجع إلى الفعل من اليهودية .
وقيل : إنه في قراءة أبيّ : «إلا من كان يهوديّا أو نصرانيّا » . وقد بينا فيما مضى معنى النصارى ولم سُميت بذلك وجمعت كذلك بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : { تِلْكَ أمانِيّهُمْ } فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } أنه أمانيّ منهم يتمنونها على الله بغير حقّ ولا حجة ولا برهان ولا يقين علم بصحة ما يدعون ، ولكن بادّعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { تِلْكَ أمانِيّهُمْ أمانيّ } يتمنونها على الله كاذبة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : تِلْكَ أمانِيّهُمْ قال : أمانيّ تمنوا على الله بغير الحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى إلى أمر عدل بين جميع الفرق مسلمها ويهودها ونصاراها ، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى دون غيرهم من سائر البشر : هاتوا برهانكم على ما تزعمون من ذلك فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى محقين . والبرهان : هو البيان والحجة والبينة . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { هاتُوا بُرْهَانَكُمْ } هاتوا بَيّنتكم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { هاتُوا بُرْهَانَكُمْ } هاتُوا حجتكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { قُلْ هاتوا بُرْهَانَكُمْ } قال : حجتكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ } أي حجتكم .
وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين : لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادّعوا من ذلك ، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا .
وقد أبان قوله : { بَلَى مَنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }على أن الذي ذكرنا من الكلام بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم .
وأما تأويل قوله : { قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ } فإنه : أحضروا وأتوا به .
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ( 111 )
وقوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة } معناه قال اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقال النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فجمع قولهم ، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم ، وهذا هو الإيجاز واللف( {[1129]} ) ، وهود جمع هائد ، مثل عائد وعود ، ومعناه التائب الراجع ، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور ، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا ، وقال الفراء ، أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس .
وقرأ أبي بن كعب «إلا من كان يهودياً » ، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية ، وقد قطعوا( {[1130]} ) قبل بقوله { فتمنوا الموت } [ البقرة : 94 ، الجمعة : 6 ] ، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان( {[1131]} ) ، وقيل : إن الهاء في { هاتوا } أصلية من هاتا يهاتي ، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل : هي عوض من همزة آتى ، وقيل : ها تنبيه ، وألزمت همزة آتى الحذف ، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين( {[1132]} ) ، قال الطبري : طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه( {[1133]} ) ،
عطف على { ود كثير } [ البقرة : 109 ] وما بينهما من قوله : { فاعفوا واصفحوا } [ البقرة : 109 ] الآية اعتراض كما تقدم .
والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده : { إلا من كان هوداً أو نصارى } . ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، جمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء ، ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله : { هوداً أو نصارى } فكلمة ( أو ) من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوْهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله ، والقرينة على أن ( أو ) ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلاً من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضاً قرينة على تعيين كل من خبري { كان } لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هوداً إلى مقول اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى . فأو ههنا للتوزيع وهوضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو { قالوا } ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت ( أو ) تعبيراً عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسماً ثالثاً من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معاً .
وقد جعل القزويني في « تلخيص المفتاح » هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذاً من كلام « الكشاف » لقول صاحب « الكشاف » « فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين » فقوله : فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشراً وتصويراً للف في الآية من قوله { قالوا } : مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي . ثم وقع نشر هذا اللف بقوله : { إلا من كان هوداً أو نصارى } فعلم من حرف { أو } توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين . وقال التفتزاني في { شرح المفتاح } جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة ( أو ) .
والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ البقرة : 62 ] الآية وجمع فاعل على فُعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضاً عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد ، وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفُره ، وإنما جاء هوداً جمعاً مع أنه خبر عن ضميره { كان } وهو مفرد لأن { من } مفرداً لفظاً ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبراً وضميراً على مراعاة المعنى .
والإشارة ب { تلك } إلى القولة الصادرة منهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } كما هوالظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ .
والأماني تقدمت في قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [ البقرة : 78 ] وجملة { تلك أمانيهم } معترضة .
وقوله : { قل هاتوا برهانكم } أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله : { قالوا أتجعل فيها } [ البقرة : 30 ] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقاً عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده .