محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (111)

{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين 111 } .

{ وقالوا } أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } نشر لما لفّته الواو في { وقالوا } ، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ { إلا من كان يهوديا أو نصرانيا } . { تلك أمانيّهم } جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأمانيّ جمع أمنية وهي ما يتمنى . كالأعجوبة والأضحوكة . فإن قيل : قولهم : { لن يدخل الجنة } أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب ( الانتصاف ) بأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم ، جمعت . ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحدا . ونظيره قولهم : مِعًى جياعٌ . فجمعوا الصفة . ومؤداها واحد ، لأن موصوفها واحد ، تأكيدا لثبوتها وتمكنها . وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } {[689]} فإنه جمع ( قليلا ) وقد كان الأصل إفراده فيقال : " لشرذمة قليلة " كقوله تعالى : { كم من فئة قليلة } {[690]} لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا التأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلا مجازيا بديعا . فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق { قل هاتوا برهانكم } حجتهم على اختصاصكم بدخول الجنة { إن كنتم صادقين } في دعواكم . قال الرازيّ : دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا ، فلا بد من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :

من ادّعى شيئا بلا شاهد *** لابد أن تَبْطُلَ دعواه

انتهى كلام الرازيّ . وسبقه إلى ذلك الزمخشريّ حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين . وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .


[689]:[26/ الشعراء/ 54].
[690]:[2/ البقرة/ 249] ونصها: {...قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين 249}.