اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود ، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين .
قوله تعالى : { إلاَّ مَن كَانَ هُوداً } .
" من " فاعل بقوله : " يَدْخُلَ " وهو استثناء مفرغ ، فإن ما قبل " إلاّ " مفتقر لما بعدها ، والتقدير : لن يدخل الجنّة أحد ، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في " مَنْ " وجهان آخران ، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من " أحد " المحذوف ، فإن الفراء رحمه الله تعالى يراعي المحذوف ، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران ، فكذلك جاز مع التقدير عنده ، وقد تقدّم تحقيق المذهبين .
والجملة من قوله تعالى : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن } في محلّ نصب بالقول ، وحمل أولاً على لفظ " من " فأفرد الضمير في قوله : " كان " ، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو " هوداً " ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث .
فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه ، ومذهب غيرهم منعه ، منهم أبو العَبَّاس ، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية ، فإن هوداً جمع " هائد " على أظهر القولين ، نحو : بازل وبُزْل ، وعَائد وعُوْد ، وحَائِل وحُوْل ، وبائِر وبُوْر .
و " هائد " من الأوصاف ، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها " تاء " التأنيث ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
738- وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا{[1733]} *** . . .
و " نيام " جمع نائم ، وهو كالأول .
أحدها : أنه جمع هائد كما تقدم .
والثاني : أنه مصدر على " فُعَل " نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو : عدل وصوم .
والثالث : وهو قول الفراء أن أصله " يهود " ، فحذفت الياء من أوله ، وهذا بعيد .
و " أو " هنا للتَّفْصيل والتنويع ؛ لأنه لما لَفَّ الضميرَ في قوله تعالى : " وقالوا " : فَصَّل القائلين ، وذلك لفهم المعنى ، وأمن الإلباس ، والتقدير : [ وقال اليَهُودُ : لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً .
وقال الأنصاري : لن يدخل إلاَّ من كان نصارى ]{[1734]} ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وكذلك النصارى لا تقول : [ لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ]{[1735]} .
ونظيره قوله : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 135 ] إذ معلوم أن اليهود لا تقول : كونوا نصارى ، ولا النَّصَارى تقول : كونوا هوداً .
وصدرت الجملة بالنفي ب " لن " ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبال ، ودخول الجنة مستقبل . وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً .
وقرأ أُبيّ{[1736]} بن كعب : { إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا } .
قوله تعالى : " تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ " " تلك " مبتدأ ، و " أَمَانِيُّهُمْ " خبره ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله : " وَقَالُوا " ، وبين قوله تعالى : { قُلْ : هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها .
والمشار إليه ب " تلك " فيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنه المقالة المفهومة من : { قَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ } ، أي : تلك المقالة أمانيهم .
فإن قيل : كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر ؟
فالجواب : أن تلك كناية عن المَقَالة ، والمقالة في الأصل مصدر ، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد والمثنى والمجموع ، فالمراد ب " تِلْكَ " الجمع من حيث المعنى .
وأجاب الزمخشري رحمه الله أن " تِلْكَ " يشار بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم [ ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي ]{[1737]} ألاَّ يدخل الجنة غيرهم .
قال أبو حيان رحمه الله تعالى : وهذا ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت ، واستقلت بالنزول ، فيبعد أن يشار إليها .
وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد .
قال أبو حيان : وفيه قلب الوَضْع ، إذ الأصل أن يكون " تِلْك " مبتدأ ، و " أَمَانِيُّهُمْ " خبر ، فقلب هذا الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه ، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يتقدم الخبر نحو : زيد زهير ، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك : الأسد زيد شجاعة [ قال عليه الصلاة والسلام : " العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى " وقال علي رضي الله عنه : " لا تتكل على المُنَى ، فإنها تضيع المتكل " ] .
قوله : " هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ " هذه الجملة في محلّ نصب بالقول .
واختلف في " هات " على ثلاثة أقوال :
أصحها : أنه فعل ، [ وهذا هو صحيح ]{[1738]} لاتِّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو : هاتوا ، هاتي ، هاتيا ، هاتين .
الثاني : أنه اسم فعل بمعنى أحضر .
الثالث : وبه قال الزمخشري : أنه اسم صوت بمعنى " ها " التي بمعنى أحضر .
وإذا قيل بأنه فعل فاختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضاً :
أصحها : أن هاءه أصل بنفسها ، وأن أصله هاتى يُهَاتي مُهَاتاةً مثل : رَامى يُرَامي مُرَامَاة ، فوزنه " فاعل " فتقول : هات يا زيد ، وهاتي يا هند ، وهاتوا وهاتين يا هندات ، كما تقول : رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ . وزعم ابن عطية رحمه الله أن تصريفه مَهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر ، وليس كذلك .
الثاني : أن " الهاء " بدل من الهمزة ، وأن الأصل " آتى " وزنه : أفعل مثل أكرم .
أحدهما : أن " آتى " يتعدى لاثنين ، وهاتي يتعدى لواحد فقط .
وثانيهما ] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [ لزوال ]{[1739]} موجب قلبها ، وهو الهمزة الأولى ، ولم يسمع ذلك .
الثالث : أن هذه " ها " التي للتنبيه دخلت على " أتى " ولزمتها ، وحذفت همزة أتى لزوماً ، وهذا مردود ، فإن معنى " هات " أحضر كذا ، ومعني ائت : احضر أنت ، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة .
فتحصل في " هَاتُوا " سبعة أقوال :
فعل ، أو اسم فعل ، أو اسم صوت ، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف ؟ وهل هاؤه أصلية ، أو بدل من همزة ، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته ؟
وأصل " هاتوا " : " هاتيوا " ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وضم ما قبله لمُجَانسة " الواو " فصار " هاتوا " .
قوله تعالى : " بُرْهَانكُمْ " مفعول به .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : " البرهان " الدَّليل الذي يوقع اليقين ، وجمعه بَرَاهين ، مثل قُرْبَان وقرابين ، وسُلْطَان وسلاطين " .
أحدهما : أنه مشتقّ من " البُرْهِ " وهو القطع ، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي ، ومنه : بُرْهَة الزمان أي : القطعة منه ، فوزنه " فُعْلاَن " .
والثاني : أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهم ، فوزنه " فَعْلالَ " ؛
[ وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف " بُرْهَان " وعدمه ، إذا سُمِّيَ به .
ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي ، سواءٌ ادَّعَى نفياً ، أو إثباتاً ، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد ؛ قال الشاعر : [ السريع ]
739- مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ *** لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ ]
وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعنى : في إيمانكم أي في قولكم : إنكم تدخلون الجنة ، أي : بينوا ما قلتم ببرهان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.