اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (111)

اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود ، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين .

قوله تعالى : { إلاَّ مَن كَانَ هُوداً } .

" من " فاعل بقوله : " يَدْخُلَ " وهو استثناء مفرغ ، فإن ما قبل " إلاّ " مفتقر لما بعدها ، والتقدير : لن يدخل الجنّة أحد ، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في " مَنْ " وجهان آخران ، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من " أحد " المحذوف ، فإن الفراء رحمه الله تعالى يراعي المحذوف ، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران ، فكذلك جاز مع التقدير عنده ، وقد تقدّم تحقيق المذهبين .

والجملة من قوله تعالى : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن } في محلّ نصب بالقول ، وحمل أولاً على لفظ " من " فأفرد الضمير في قوله : " كان " ، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو " هوداً " ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث .

فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه ، ومذهب غيرهم منعه ، منهم أبو العَبَّاس ، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية ، فإن هوداً جمع " هائد " على أظهر القولين ، نحو : بازل وبُزْل ، وعَائد وعُوْد ، وحَائِل وحُوْل ، وبائِر وبُوْر .

و " هائد " من الأوصاف ، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها " تاء " التأنيث ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]

738- وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا{[1733]} *** . . .

و " نيام " جمع نائم ، وهو كالأول .

وفي " هود " ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جمع هائد كما تقدم .

والثاني : أنه مصدر على " فُعَل " نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو : عدل وصوم .

والثالث : وهو قول الفراء أن أصله " يهود " ، فحذفت الياء من أوله ، وهذا بعيد .

و " أو " هنا للتَّفْصيل والتنويع ؛ لأنه لما لَفَّ الضميرَ في قوله تعالى : " وقالوا " : فَصَّل القائلين ، وذلك لفهم المعنى ، وأمن الإلباس ، والتقدير : [ وقال اليَهُودُ : لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً .

وقال الأنصاري : لن يدخل إلاَّ من كان نصارى ]{[1734]} ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وكذلك النصارى لا تقول : [ لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ]{[1735]} .

ونظيره قوله : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 135 ] إذ معلوم أن اليهود لا تقول : كونوا نصارى ، ولا النَّصَارى تقول : كونوا هوداً .

وصدرت الجملة بالنفي ب " لن " ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبال ، ودخول الجنة مستقبل . وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً .

وقرأ أُبيّ{[1736]} بن كعب : { إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا } .

قوله تعالى : " تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ " " تلك " مبتدأ ، و " أَمَانِيُّهُمْ " خبره ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله : " وَقَالُوا " ، وبين قوله تعالى : { قُلْ : هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها .

والمشار إليه ب " تلك " فيه ثلاثة احتمالات :

أحدها : أنه المقالة المفهومة من : { قَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ } ، أي : تلك المقالة أمانيهم .

فإن قيل : كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر ؟

فالجواب : أن تلك كناية عن المَقَالة ، والمقالة في الأصل مصدر ، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد والمثنى والمجموع ، فالمراد ب " تِلْكَ " الجمع من حيث المعنى .

وأجاب الزمخشري رحمه الله أن " تِلْكَ " يشار بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم [ ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي ]{[1737]} ألاَّ يدخل الجنة غيرهم .

قال أبو حيان رحمه الله تعالى : وهذا ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت ، واستقلت بالنزول ، فيبعد أن يشار إليها .

وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد .

قال أبو حيان : وفيه قلب الوَضْع ، إذ الأصل أن يكون " تِلْك " مبتدأ ، و " أَمَانِيُّهُمْ " خبر ، فقلب هذا الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه ، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يتقدم الخبر نحو : زيد زهير ، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك : الأسد زيد شجاعة [ قال عليه الصلاة والسلام : " العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى " وقال علي رضي الله عنه : " لا تتكل على المُنَى ، فإنها تضيع المتكل " ] .

قوله : " هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ " هذه الجملة في محلّ نصب بالقول .

واختلف في " هات " على ثلاثة أقوال :

أصحها : أنه فعل ، [ وهذا هو صحيح ]{[1738]} لاتِّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو : هاتوا ، هاتي ، هاتيا ، هاتين .

الثاني : أنه اسم فعل بمعنى أحضر .

الثالث : وبه قال الزمخشري : أنه اسم صوت بمعنى " ها " التي بمعنى أحضر .

وإذا قيل بأنه فعل فاختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضاً :

أصحها : أن هاءه أصل بنفسها ، وأن أصله هاتى يُهَاتي مُهَاتاةً مثل : رَامى يُرَامي مُرَامَاة ، فوزنه " فاعل " فتقول : هات يا زيد ، وهاتي يا هند ، وهاتوا وهاتين يا هندات ، كما تقول : رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ . وزعم ابن عطية رحمه الله أن تصريفه مَهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر ، وليس كذلك .

الثاني : أن " الهاء " بدل من الهمزة ، وأن الأصل " آتى " وزنه : أفعل مثل أكرم .

وهذا ليس بجيد لوجهين :

أحدهما : أن " آتى " يتعدى لاثنين ، وهاتي يتعدى لواحد فقط .

وثانيهما ] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [ لزوال ]{[1739]} موجب قلبها ، وهو الهمزة الأولى ، ولم يسمع ذلك .

الثالث : أن هذه " ها " التي للتنبيه دخلت على " أتى " ولزمتها ، وحذفت همزة أتى لزوماً ، وهذا مردود ، فإن معنى " هات " أحضر كذا ، ومعني ائت : احضر أنت ، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة .

فتحصل في " هَاتُوا " سبعة أقوال :

فعل ، أو اسم فعل ، أو اسم صوت ، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف ؟ وهل هاؤه أصلية ، أو بدل من همزة ، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته ؟

وأصل " هاتوا " : " هاتيوا " ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وضم ما قبله لمُجَانسة " الواو " فصار " هاتوا " .

قوله تعالى : " بُرْهَانكُمْ " مفعول به .

قال القرطبي رحمه الله تعالى : " البرهان " الدَّليل الذي يوقع اليقين ، وجمعه بَرَاهين ، مثل قُرْبَان وقرابين ، وسُلْطَان وسلاطين " .

واختلفوا فيه على قولين :

أحدهما : أنه مشتقّ من " البُرْهِ " وهو القطع ، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي ، ومنه : بُرْهَة الزمان أي : القطعة منه ، فوزنه " فُعْلاَن " .

والثاني : أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهم ، فوزنه " فَعْلالَ " ؛

[ وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف " بُرْهَان " وعدمه ، إذا سُمِّيَ به .

ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي ، سواءٌ ادَّعَى نفياً ، أو إثباتاً ، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد ؛ قال الشاعر : [ السريع ]

739- مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ *** لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ ]

وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعنى : في إيمانكم أي في قولكم : إنكم تدخلون الجنة ، أي : بينوا ما قلتم ببرهان .


[1733]:- لم نهتد إلى قائله وتتمته، وينظر معاني القرآن: 1/73، والبحر: 1/520، والدر المصون: 1/343.
[1734]:- سقط في أ.
[1735]:- سقط في ب.
[1736]:- انظر المحرر الوجيز: 1/198، والبحر المحيط: 1/520.
[1737]:- سقط في ب.
[1738]:- سقط في أ.
[1739]:- في أ: لجواز.