البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (111)

تلك : من أسماء الإشارة ، يطلق على المؤنثة في حالة البعد ، ويقال : تلك وتيلك وتالك ، بفتح التاء وسكون اللام ، وبكسرها وياء بعدها ، وكسر اللام وبفتحها ، وألف بعدها وكسر اللام ، قال :

إلى الجودي حتى صار حجراً *** وحان لتالك الغمر انحسارا

هاتوا : معناه أحضروا ، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتى ، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب ، وللزوم الألف ، إذ لو كانت همزة لظهرت ، إذ زال موجب إبدالها ، وهو الهمزة قبلها ، فليس وزنها أفعل ، خلافاً لمن زعم ذلك ، بل وزنها فاعل كرام .

وهي فعل ، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل ، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها .

ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر ، وهو الزمخشري ، وهو أمر وفعله متصرف .

تقول : هاتي يهاتي مهاتاة ، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه ، خلافاً لمن زعم ذلك .

وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف ، لأن الأصل أن لا حذف ، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان .

فمعنى هات أحضر ، ومعنى ائت أحضر .

وتقول : هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين ، تصرفها كرامي .

البرهان : الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البره ، وهو القطع ، فتكون النون زائدة .

وقيل : من البرهنة ، وهي البيان ، قالوا : برهن إذا بين ، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل ، فينبني على هذا الاشتقاق .

التسمية ببرهان ، هل ينصرف أو لا ينصرف ؟

{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أن نصارى } : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم .

فقالت اليهود : { ليست النصارى على شيء } ، وقالت النصارى : { ليست اليهود على شيء } ، وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس .

والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولهم في القول ، لن يدخل الجنة ، لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكماً على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضاً ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخراً ، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بيدخل ، وهو من الاستثناء المفرّغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من .

ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلاً ، أو يكون منصوباً على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : { هوداً أو نصارى } .

وهود : جمع هائد ، كعائد وعود .

وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصرى .

وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان .

فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك .

وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبن مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :

وأيقظ من كان منكم نياما***

فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤمثها بالتاء ، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان .

وقرأ أبي : إلا من كان يهودياً أو نصرانياً ، فحمل الاسم والخبر معاً على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير .

{ تلك أمانيهم } : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم .

وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم .

انتهى كلامه .

وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها .

وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبر .

فقلب هو الوضع ، إذ قال : أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه .

وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل : زيد زهير ، نص على ذلك النحويون .

فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : { لن يدخل الجنة } ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني .

وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع .

فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم ، لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً ، لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية .

وقد تقدّم شرح الأماني في قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم .

{ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم .

وفي هذا دليل على أن من ادعى نفياً أو إثباتاً ، فلا بد له من الدليل .

وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل .

قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل .

إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم .

وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة .

وقيل : صادقين في إيمانكم .

وقيل : في أمانيكم .

وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق .

تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } .

/خ113